ماجوريل... الفنان الذي منحه الشرق هويّته الجمالية

ماجوريل... الفنان الذي منحه الشرق هويّته الجمالية

19 يوليو 2016
من أعمال ماجوريل (العربي الجديد)
+ الخط -
وقدماكَ تطآن لأول مرة مدينة مراكش الحمراء بجنوب المغرب، لا يمكنك بعد ارتياد مآثرها التاريخية البهيجة إلا أن تعرج على حديقة ماجوريل بنباتاتها العجيبة التي حملها هذا الفنان الفرنسي المولود بمدينة نانسي الفرنسية سنة 1886 خلال ترحاله ببلدان العالم. الحديقة المنظمة والمدهشة، ومتحفها الصغير يثير فضولك فتعرف أن جاك ماجوريل لم يكن عالم نباتات، بل فناناً تشكيلياً عشق المغرب فاستقر نهائياً به بعد أن صور أناسه وأسواقه وواحاته. فهذا الشاب العليل، الهش البنية والقوام، سافر شاباً إلى مصر واستقر بها بين 1914 و1918، غير أنه لما اكتشف بلاد صديقه وابن مدينته الجنرال ليوطي، الذي كان حاكماً عاماً لفرنسا بالمغرب، لم يلبث أن وجد ضالته في هذا البلد الذي منحه كيانه الفني وجعل منه فناناً يخرجه من جلدته الكولونيالية ليصير ابن البلد البار بعطائه.
مسير ماجوريل وتجربته تخلخلان نظرتنا للفن الاستعماري والاستشراقي في معاييرها ومسبقاتها. لا لأنه استقر نهائياً في "الشرق"، ولا لأنه عشقه، ولكن لأنه وجد هويته الفنية هنا في أنواره وتفاصيله وفي الحساسية الجديدة التي خلقتها لديه ظلال وأنوار المدينة العتيقة وفي الصمت الذي ينبثق من الجبال الجرداء في بوابة الصحراء. ففي السنوات الأولى أقام الفنان في المدينة العتيقة بمراكش، في الوقت الذي كان يبني فيه الباشا الكلاوي، الرجل القائد القوي الموالي للاستعمار، قصره الذي ما يزال قائماً. طبعاً سوف يرتبط الفنان بهذا الرجل العاشق للفنون، والذي كان يستقبل بين الفينة والأخرى قمم الفن السينمائي وكبار السياسيين، ومن ضمنهم تشرشل، الذي كان لا يكل من رسم قمم الأطلس المغلفة بالثلوج.
في السنوات الأولى سوف تركز أعمال ماجوريل على الوجوه والأسواق والدروب والأضرحة. وهكذا صارت ألوانه أكثر وضوحاً وبريقاً، ناضحة بالتباينات الضوئية التي تفضح عنها المدينة وملابس الناس ومعروضاتهم. هكذا بدأ الفنان ينزلق تدريجياً في حب المدينة وتلاوينها وتدرجات نورها وعبقها السري. وقد طلب منه الباشا الكلاوي أن يرسم له بورتريهاً. والصورة الوحيدة المتداولة لهذا البورتريه قديمة بالأبيض والأسود. لكن لا علم لأحد بمن يملك هذا البورتريه الذي يبدو فيه القائد صارم الملامح، والذي عبر فيه ماجوريل عن تصوره للسلطة الهائلة التي كان يتمتع بها هذا القائد. وقد أتيحت لي فرصة الاطلاع على البورتريه في مكتب ابنه عبد الصادق الكلاوي، الذي اشتغلت معه قبل سنوات في ترجمة كتاب ألفه عن أبيه. ويبدو أن البورتريه هذا من الممتلكات القليلة التي استطاعت عائلة الكلاوي أن تحافظ بها بعد الحجز على ممتلكات القائد بعد استقلال البلاد.
بيد أن ماجوريل ما لبث أن استهلك أجواء المدينة التي خَبَر تعرّجاتها وأناسها. فراح إلى الجنوب الرحب يستكشف منطقة كلاوة، بتضاريسها الجافة وقصورها ذات الطوابق العديدة المبنية من الطين، ووهادها وشمسها الحارقة. كانت هذه التجربة نوعاً من الانعطاف في أعماله بحيث إن الانتقال إلى رحابة الفضاء هذا انعكس على أسلوبه. فالفنان عرف بإتقانه للتلوينية، بيد أنه هنا وجد نفسه يواجه تلاوين طفيفة يكاد البصر لا يضبطها إلا من باب الإحساس الجارف. هكذا صار ماجوريل يراكم التجارب التصويرية، ويمنح لنفسه كما للآخرين شغفه بهذه الفضاءات القاسية العصيّة على الإمساك والممتنعة عن الألوان والمشاكسة للنظرة. لكنه وجد
ضالته في تصوير نساء المنطقة، في أوضاع اجتماعية كما في أوضاع شبه عارية، هو المفتون بالغرابة الآسرة لتداوير الجسد الأنثوي. ليس ثمة من استشراق باذخ في هذه اللوحات بقدر ما هناك ضرب من التلصُّص والتمتع بمفاتن هذا الجسد، وتملُّك خفي لممكناته الشبقية.
بيد أن تجربته سوف تأخذ منعطفاً آخر سوف يغرق في هذا العشق للجسد القمحي والأسود الذي ارتاد تباشيره الفاتنة في جنوب المغرب، حين سيقوم بزيارة لإفريقيا. هنا تتغير الألوان ويجد الفنان نفسه أمام تآلفات لونية وفضائية تكاد تتلخص في الأخضر والأحمر الترابي. وهنا أيضاً سوف يطلق الفنان العنان لعشقه للجسد كي يمنحنا لوحات سوف يضمّخها بماء الذهب للتعبير عن نور الأسود وعن بهاء تضاريسه.
حين يطّلع المرء منا على هذه التجربة التشكيلية الفريدة، يصاب بالدوار. فماجوريل ليس فناناً استشراقياً لأنه سعى إلى رصد المرئي المحلي كما يستعرض نفسه عليه؛ كما أنه ليس فناناً كولونيالياً حتى وهو من الناحية الشخصية ظل صديقاً للجنرال ليوطي المقيم العام لفرنسا بالمغرب، الذي عرف بحبه لهذا البلد. هذه الوضع البيْني غير المتحدِّد ليس تعبيراً عن رغبة من الفنان (الذي استقر بالبلاد رغم أنه توفي بباريس وووري الثرى بمسقط رأسه)، بقدر ما هو سؤال تاريخي يُطرح علينا. هل ينتمي ماجوريل لتاريخ الفن الفرنسي الغربي أم لتاريخ الفن الشرقي، المغربي منه بالأخص؟ لقد حان الوقت للجواب على هذا السؤال بعيداً عن الموقف الذي صاغه الخطيبي وإدوارد سعيد عن الاستشراق. فأغلب أعمال ماجوريل المغربية توجد في متاحف مغربية. ولعل أهمها لوحة هائلة يملكها أحد بنوك المغرب النافذة بعنوان "سوق الخميس". وفيها نجد تشخيصاً لطقس من الطقوس الشعبية المندثرة (العلاّمات)، بحيث تشكل هذه اللوحة مرجعاً إثنولوجياً لدراستها. فإذا كان الفنان قد وهب لهذا البلد قسطاً وافراً من هويته الفنية والشخصية، كما منحه البلد منبع إلهام لا ينضب، فمن حق تاريخ الفن في هذا البلد أن يدرجه، بشكل أو بآخر، في تاريخه المحلي. ثم إن الفنان لم يكتف بالتصوير الواقعي، إذ أن أعماله انتحت منحى تكعيبياً أحياناً وتعبيرياً أحياناً أخرى، مما يدل على أن "أسلوبه" لم ينهض على التصوير التسجيلي بقدر ما قام على الحساسية الشخصية الجمالية التي تمنحها له مشاهد الفضاءات والأشخاص. من ناحية أخرى ثمة من الفنانين المغاربة من أفصحوا عن رؤية استشراقية أكثر من ماجوريل وغيره، كحسن الكلاوي (ابن الباشا الشهير) ومريم مزيان وغيرهما ممن تتلمذوا على ماريانو برتوتشي. وهو ما يجعلنا أمام استشراق داخلي ليس له طعم ولا نكهة ولا إشراق لوحات ماجوريل الغنية بالحساسية اللونية والمنظورية والتركيبية المدهشة. وتلك هي المسألة...

دلالات

المساهمون