المخفيّ أعظــم...

المخفيّ أعظــم...

19 يوليو 2016
دولوني في عمل له(Getty)
+ الخط -


قبل رواية "بوصلة" التي أهّلت ماتياس إينار لجائزة "غونكور"، أثار إبداع هذا الروائي الفرنسي المولع بالشرق اهتمامًا عابرًا للقارات، وصلت أصداؤه إلينا في مناطق 1948 من فلسطين.
وما تزال هذه الأصداء ترتبط، في ذهني، بالترجمة العبرية لروايته المذهلة "زون" Zone (الترجمة الحرفية "منطقة" أو "إقليم") التي كتبها عام 2008 وكانت روايته الثالثة.
وبحسب ما كتب عن هذه الرواية لدى صدورها باللغة العربية، في ترجمة أشاد بها إينار مرارًا وأنجزتها اللبنانية ماري طوق عام 2010، فقد كانت في مجملها استعادة لتاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط طوال سني القرن العشرين المنصرم، منذ الحرب العالميّة الأولى وصولًا إلى حرب العراق، مرورًا باحتلال فلسطين، والحربين في البوسنة ولبنان، ومن خلال التطرّق إلى معارك وحروب أخرى من قرون غابرة.
يقدّم إينار هذه الاستعادة عبر رحلة في القطار من ميلانو إلى روما طولها 517 كيلومترًا هي بالضبط عدد الصفحات التي صدرت بها الرواية باللغة الفرنسية، رحلة يقوم بها فرنسيس سيرفين ميركوفيتش، وهو عميل للاستخبارات الفرنسية مولود من أم كرواتية، يحاول تنفيذ مهمّة أخيرة عند المحطّة المقبلة للقطار الذي يستقله، وهي مدينة روما.
رواية "زون" عبارة عن مونولوج لذاكرة الراوي/ الكاتب بواسطة سرد متصاعد لمحادثة طويلة من غير علامات وقف تقريبًا.
وهي تتناول الحرب في لبنان مستعينة برواية كاتب لبناني متخيّل.
كما تتناول المسألة الفلسطينية، فتشير من ضمن أمور أخرى إلى أن غزة تعج بالقمامة والإطارات المطاطية المشتعلة، وإلى أنها المعضلة الثابتة لجيش دولة الاحتلال الإسرائيلية، هذا الجيش المُلاحق أولًا ودائمًا من طرف أشباح الأطفال الفلسطينيين على الرغم من دباباته المدهونة جيدًا وطائراته الأحدث ووحداته العسكرية النخبويـة.

إلى جانب الأهمية الفنية لهذه الرواية، من حيث شكلها وتشابيهها واستعاراتها، ثمة أهمية بالغة الخطورة للمضمون الذي بُنيت الرواية به ومن أجله.
فالقارئ ليس أمام رواية من صنع الخيال، وإن كان الخيال حاضرًا فيها بقوّة، بل تكاد تشكل تسجيلًا- قال قائل إن الكاتب يسرده بدم بارد وبلغة مجرّدة من المشاعر- لكابوس مرعب شهدته سنوات القرن العشرين ويقضّ مضاجع كل إنسان.
ولا يمضي الكاتب في هذه الرحلة بمفرده، إذ ثمة شخصيات أخرى ترافقه في رحلة التذكّر والتذكير.
بناء على ذلك من الطبيعي أن يشتمل المونولوج على حوارات، وأن تعلن في غضون ذلك مواقف، وأن يتم طرح وجهات نظر إزاء هذه المسألة أو تلك.
هناك قضايا متنوعّة أخرى، أدبية وغيرها، تثيرها هذه الرواية، ويضيق المجال للتبحّـر فيها، اللهم باستثناء قضية واحدة: الطريق من ميلانو إلى روما التي تبلغ 517 كيلومترًا والتي فرضت عدد صفحات الرواية بلغتها الأصلية، ليست قصيرة قطّ، لكن القارئ يخرج منها بانطباع عام مؤداه أن الطريق للتخلي عن مناخ عدم المبالاة أمام مشاهد تشبه الجحيم أو نهاية العالم ما تزال في بدايات الألفية الجديدة طريقًا طويلة، وربما طويلة جدًا.
وذهب بعض النقّـاد إلى أن إينار قصد بذلك ألّا يدوّر أية زوايا حادّة، بقدر ما تغيّـا أن يُشعر القراء بأن المخفيّ ما يزال أعظم، وأن يلمّح إلى أنه يبقى لغيره أيضًا ما يضيفه في هذه الطريق الطويلة والشاقة فعلًا.
المهم أن ترجمة رواية "زون" إلى اللغة العبرية تمت عام 2013. وقد استقبلت نقديًّـا بردات فعل مختلطة، كانت أبرزها ردّات فعل سياسية أو أيديولوجية عابت عليها أنها تحتوي الكثير من "التحريف" نظرًا إلى كون كاتبها متماثلًا مع معاناة الفلسطيني وواعيًا لحقيقة أنه "الطرف الأضعف في الصراع"، ما جعله يتغاضى عن "معاناة الإسرائيلي".
وفي مناسبة صدور هذه الترجمة إلى العبرية أبدى إينار، في سياق ردوده على أسئلة مقابلة أجرتها معه إحدى الدوريات الإسرائيلية عبر البريد الإلكتروني، تشاؤمه من احتمال إيجاد حل للقضية الفلسطينية في الأفق المنظور، ولفت إلى أن الفلسطينيين في مكانة سيئة للغاية أمام دولة الاحتلال، ويعود سبب ذلك إلى أن القضية الفلسطينية لم تعد مثار اهتمام زعماء العالم كما كانت في الماضي، وبالتالي باتت غير مُدرجة في سلم أولوياتهم.
ومع أن هذا التشاؤم مرت عليه ثلاثة أعوام، فإن المخفيّ المترتب على استمرار تراجع اهتمام العالم والعرب بالقضية الفلسطينية ما زال أعظم، بعد أن كانت هذه القضية لفترة طويلة بمنزلة "بوصلة"، من دون الارتباط بعنوان الرواية الفائزة بـ"الغونكور".

دلالات

المساهمون