تأملات في حزيران

تأملات في حزيران

08 يونيو 2016
عمل للفنان السوري عاصم الباشا (بإذن من الفنان)
+ الخط -
في مثل هذه الأيام قبل تسعة وأربعين عامًا بالضبط، وقعت "نكسة" حزيران، كما اصطُلح على تسمية الهزيمة الكبرى التي مني بها العرب عامة، و"دول الطوق" خاصة: مصر وسورية والمملكة الأردنية الهاشمية، وما كان في يد فلسطين من نفسها: الضفة الغربية والقدس "الشرقية"، وقطاع غزة. 
ومن أينما أدار المرء الأمر وقلّب وجوهه، يجد عار الهزيمة وظلالها، ماكثًا عند كل تفصيل، وصولًا إلى الصورة الكبرى. يتذكر الناس الذين عاصروا تلك الأيام، الأوهام الكبيرة التي شاعت قبلها، أوهام تمتح من خطاب وطني واضح، يحدد العدو ويحدد الهدف. فمهما تفرّعت الروايات واختلفت في تفاصيلها، خاصّة في الشق المتعلّق بالمؤامرة والخيانة والضعف، إلا أنها جميعًا تنتظم في خيط واحد، يقول عن الأجواء المشاعة قبل حزيران: فلسطين المحتلة ودول عربية وقادة عرب، جميعًا في طرف واحد، ضد الاحتلال الإسرائيلي أو الكيان الصهيوني.
جاء حزيران وهُزم العرب. من شأن رواية مماثلة الاستمرار في بثّ الوضوح، إذ هي ومهما اختزلت واختصرت تحدد السبب والعدو والنتيجة، على نحوٍ تنجح فيه في بناء ذاكرة مشتركة من شأنها "شد العصب"، وجعل "التاريخ المشترك" أمرًا رافعًا للمصير المشترك. وثمة أصلًا في وصف الهزيمة وتسميتها ما يدعو للتأمل؛ فإن قيل الأيام الستة، عُرفت. وإن قيل اسم الشهر، عُرفت. وإن قيل العام، عُرفت كذلك. خلافًا فعلًا لهزائم أخرى وفيرة أتت من بعدها، وحروب لا يمكن اتساق روايتها. فتضيع الأمور وتختلط عند أبسط الأشياء: عند سؤال من العدو؟ مثلًا. كذا لا يمكن النظر إلى تاريخ السادس عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1991، وطرح السؤال البسيط: من العدو؟ إذ من شأن سؤال مماثل إشاعة الانقسام بين المجيبين. فمن مع من؟ ومن ضد من؟ تؤدي إلى من أي بلد أنت. 

ستتناسل من السؤال أعلاه أسئلة أخرى، تتطابق معه في كل شيء، خلا مفردة "بلد"، إذ من الممكن أن يحل بسهولة محلها لفظ من قبيل: جهة، فصيل، طائفة، منطقة.. إلخ. عند كل مرة يريد المرء "التأمل" في "الحروب" الدائرة في ربوعنا.
وبقدر ما ترتسم خرائط الدول وحدودها وما جرى لها من "احتلال"، بصورة جلية في ذهن الناس، بقدر ما تتشوش الخرائط والحدود عند زيارة بداية المعركة البرية ضد العراق، عام 1991. لتعود وتشتبك أكثر وأكثر كلّما تقدم الزمن، لتبدو فعلًا أدنى إلى الخطوط الواهية لا الحدود. ففي البال ما زال رسم السودان ماثلًا، أما حالته اليوم منقسمًا إلى سودانين اثنين، فلا خارطة واضحة في الذهن عنهما، رغم "استتباب" أمن الانقسام. 

وبالمثل يمكن التنزه إلى بقاع أخرى في ربوعنا، ليبيا مثلًا، التي حدودها الشرقية مع مصر والجنوبية مع تشاد ليست إلا خطًا مرسومًا بمسطرة دقيقة، لكن داخل الحدود لا يبدو البلد صلدًا متماسكًا. وكان لليمن أيضًا نصيبه من تغيير الحدود والانقسام والانفصال، وصولًا إلى حاله اليوم كمرجل يغلي، ويتناثر فصائل ومناطق وأسماء "جديدة أخرى".
إلا أن "جوهرة" تاج السؤال أعلاه، الذي ما كان ممكنًا طرحه في حزيران، لن تكون إلا من نصيب العراق وسورية، هناك تزدهر الفصائل والجيوش والمليشيا والدواعش والطوائف والمذاهب والبدع والإثنيات، وكل ما إلى تلك الألفاظ من فضيلة الحلول مكان لفظ "بلد" في السؤال نفسه. 

وبالطبع فإن مسببات هزيمة حزيران كثيرة ووفيرة، لئلا يُظنّ أن مديحه كامن في هذه المقارنة. بيد أن تلك المسببات وحالتنا المشبعة بالنكوص والتردي، تبلورت على ما يبدو من بعد هزيمة حزيران. وهو ما اصطلح أحيانًا على عدّه نتيجة للهزيمة. لكن المتأمل في أحوالنا اليوم، قد يجد في المفارقة ما يعين على الأمل، إذ إن تلك الأيام الستة امتلأت بصوت المذيع الشهير أحمد سعيد وهو ينقل "أخبار النصر"، كذا راحت الأوهام تقوم الواقع، قبل أن يستقر الإجماع العربي على الحيرة قليلاً والتلكؤ في التسمية، فقيل نكسة، ثم عرف الناس: هزيمة. أما في المناسبات الأخرى الوفيرة، فلا وجود لصوت مذيع يصدح مبشرًا بنصر، وهذا في الظن، تطور ملحوظ.

المساهمون