عولمة متكبرة؟

عولمة متكبرة؟

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
ليس ثمة فائدة للتحليل والبحث على ما يبدو. فأصحاب الاختصاص والباحثين في القانون والاقتصاد وغيرهما من الفروع اللصيقة، أمضوا وقتًا طويلًا في دراسة جدوى لاحتمالين: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبقاؤها فيه. وإذ وجدوا الخروج "غير مجدٍ"، لئلا يقال خاطئ، لم يكترث الناخبون بكلامهم على ما يظهر. فأهل البحث مملون، وعقلانيتهم منفّرة. أين منهم دمى العولمة المتأنقين؟ أمثال الساسة الجدد، الأدنى إلى التهريج، ورمي الكلام على عواهنه، مع إطلاق ضحكات رنانة، أو تلويح بقبضة مختل؟ 

"الساسة الجدد"، مثل دونالد ترامب أو نايجل فاراج، ليسوا ساسة حقًا، هم من أصحاب الثروات الهائلة. والثروة كلية النفوذ في عالم "العولمة المتكبرة". إذ يجد هؤلاء ببساطة وسهولة "مختصين تقنيين": مستشارين ماليين وقانونيين وغيرهم، من الذين يجيدون قراءة العقود والاتفاقات، وتصميم كل ما يناسب الثري ليزداد ثراءًا.

على سبيل المثال، توضع قوانين صارمة للجميع، أما أهل "العولمة المتكبرة"، فتفصّل لهم قوانين دقيقة على مقاسهم. إذ مقابل الجملة الأكثر تداولًا على الإنترنت: I agree to the terms and conditions، (أوافق على الشروط)، التي يخضع لها جميع العامة، ثمة الـoffshore، وما يتفرع منها من شركات ومصارف وهيئات، وجنات ضريبية، تكفل كلها للثري ابن "العولمة المتكبرة" التمتع بحماية قانونية مفصّلة على مقاسه، كما تفصّل الثياب في الـHaute Couture.

هاتان الحالتان المتقابلتان، هما الوجه الأكثر تواترًا في "العولمة المتكبرة"، ويمكن القياس عليهما بقدر ما يتسع الخيال، كما يمكن باستعمال لغة الرياضيات، ردّهما إلى "العوامل الأولية"، لتكون النتيجة بسيطة واضحة مفهومة: أغنياء من جهة وفقراء من جهة أخرى، لكن بثياب على آخر طراز، أو Fashionable. 

وبين الاثنين، فئة المستشارين والمحللين التقنيين، الذين لا ينفذون إلا إرادة الأغنياء. من بينهم مثلًا المحامون المختصون بمساعدة الأغنياء على ابتكار وسائل أكثر خبثًا في الفساد وما إليه. هم مثلًا، محامون غفل وغير موجودين في "وثائق بنما"، التي مرّت كخبر عاجل في نشرة أخبار معولمة. إن شيئًا لا يحرك عالم الأغنياء هذا على ما يظهر، ولا حتى خبر عن "فساد" مديرة صندوق النقد الدولي، الفرنسية كريستين لاغارد. ولا يبدو أن شيئًا أيضًا أزعج مدراء المصارف الأميركية، التي ضللت البسطاء، ليركضوا وراء سراب شراء عقار، عبر ابتكار "منتجات مشتقة" عن الفائدة وفائدة الفائدة وفائدة فائدة الفائدة، في أزمة عام 2008.

الأرقام وحدها تتكلم، وتقول إن واحدًا بالمائة من السكان على وجه البسيطة يمتلكون ثروة تعادل قيمتها نصف البسيطة. وإذ يتذكر المرء كيف يترافق هذا مع التطرف الديني والعنصرية، ومع العنف والمذابح والحروب، لصارت البسيطة برّاقة جهنمية تلمع.
لكن الأمر لا يتعلق بعالم الفسطاطين: شرّ وخير أو غني وفقير وما إلى ذلك من ثنائيات متقابلة. هو يتعلق إلى حد كبير بالمعرفة والعلم والتقدم، من الصحيح أن ثمة نتائج سلبية، موجودة في المجتمعات الغربية، وظهر ذلك مثلًا في "قلة رصانة" زعيم حزب الاستقلال البريطاني نايجل فاراج مثلًا، إلا أننا لا يمكن لنا إلا الإقرار بأننا بعيدون فعلًا عن المعرفة والعلم والتقدم. وإننا أيضًا بعيدون عن كل فكرة التصويت والاستفتاء والقبول بالنتيجة أصلًا. الفروق كبرى بيننا وبين عالم المعرفة والتقدم.

ظهر هذا أيضًا، في الحمى التي سبقت نتيجة الاستفتاء البريطاني، حيث أراد مشجعو "البقاء" الحث عليه من خلال الإشارة إلى حجم الإنفاق على البحث العلمي في الجامعات ومراكز الأبحاث البريطانية. لكن ثمة حقيقة لا يمكن الهروب منها اليوم: عالم البحث العلمي في الفروع كلها: العلوم الإنسانية والعلوم البحتة والعلوم التطبيقية، يستعمل اللغة الإنكليزية في غالبية المنشورات، على نحو تبدو فيه اللغات الأخرى باهتة تمامًا، إذ إن الإشارة إلى الأبحاث باللغة الإنكليزية، والاقتباس منها، وإعطاءها الصدقية، هي من "المنتجات المشتقة" التي تشبه نظيرتها المصرفية التي ولدت الفائدة وفائدة الفائدة وفائدة فائدة الفائدة.

البحث العلمي يغيّر المنظور، وإن ببطء وعلى مهل، إذ تعوزه الدقة والتأني، لبسط الأمور والتفكير فيها ثم استخلاص النتائج، يرافق ذلك كله، وضع الحجج. البحث العلمي يغيّر المنظور، وهذا ما يسهل استنتاجه في قراءة الحوار مع ضيفة هذا العدد الباحثة اللبنانية، التي تكتب بالإنكليزية، أمل غزال.





المساهمون