"ذا مغازين"، بصمة زها في قلب لندن

"ذا مغازين"، بصمة زها في قلب لندن

05 ابريل 2016
مقهى ومطعم "ذا مغازين" في لندن (ندى منزلجي)
+ الخط -
في ظهيرة لندنية باردة، ومن ركني المغمور بالضوء الطبيعي المنسال على أعمدة بيضاء عبر فتحات دائرية في السقف، كنت أتفحص المكان محاولة تبين مصدر شعور غامض بخفة في القلب، كأن جداراً لا مرئياً كان يفصل بين الممكن واللا ممكن، تحول فجأة إلى غبار ناعم تلاشى هباء. كان الأمر أشبه بالجلوس داخل صحن فضائي هبط في غفلة سحرية وسط حديقة كينسينغتون غاردن الملكية المجاورة لحديقة الهايد بارك الشهيرة مترامية الأطراف، أو ربما في بطن كائن أسطوري شفّاف خرج من البحيرة المجاورة، واستلقى على العشب مستنداً إلى جدار قديم من حجر أصفر. مبنى أبيض، بسطوح متموجة وأعمدة مائلة، تظنه من بعيد خيمة، أو غيمة واطئة، أو قطرة عملاقة من ماء، في أناقته المرهفة وانفتاحه الكريم على الفضاء الخارجي، يبدو في تضاد تام مع بناء حجري مستطيل متجهم منغلق على نفسه التصق به بدون سبب واضح. 

كان المكان يغص برواد يتابعون أحاديثهم، أو منشغلين بصحونهم وكؤوسهم من دون أن يشي مظهرهم بشعور خاص بالحدث. فقط مجموعة من السياح اليابانيين كانوا مهتمين بشكل متزايد بالتقاط الصور. أما أنا فجئت لأمر آخر. كنت أستعيد في أذني صوتها المميز الأجش وهي تعلن أنها لا تحب الحلول الوسط حين يتعلق الأمر بالمفاضلة بين الإبداع وبين الاستخدام العملي، وتفضل بدلًا عن ذلك الثقة بأن من يتعاملون معها راغبون في الذهاب برفقتها في مغامرة إبداعية لا تعترف بالحدود. جئت لأحتفي على طريقتي بالمعمارية العراقية البريطانية الاستثنائية زها حديد التي غادرتنا قبل أيام فجأة. ربما من الصعب ترجمة تصريحها السابق ببلاغة أكثر من تصميمها لهذا المطعم - المقهى "ذا مغازين" الملتصق بمبنى "سربنتاين ساكلير غاليري"، صالة العرض الفنية الجديدة التي افتتحت مع المطعم عام 2013 لتكون معرضاً لأعمال نخبة الفنانين والمعماريين في القرن الحادي والعشرين، ولتشكل ثنائيًا فنيًا مع شقيقتها الكبرى "سربنتاين غاليري" التي تفصلها عنها بضعة أمتار فقط عبر جسر فوق بحيرة سربنتاين، وتقع في بناء جميل يعود الى ثلاثينات القرن الماضي.
كل شيء يحمل بصمتها، من الطاولات المبهجة الى الكراسي والصحون وأدوات المائدة. صورها مطبوعة على أوراق موجودة على "كاونتر" الخدمة مع نبذة عنها، الندل يتسابقون في وصف لطافتها في المناسبات العديدة التي زارت فيها المطعم، لكن لا شيء أبعد من ذلك، لا طلبات خاصة لها، ولا معلومة عنها تتعدى ما يعرفه الجميع. المرأة النجمة المتحدية والمثيرة للجدل، المعمارية الشغوفة، صاحبة الرؤية والأفكار المذهلة التي لطالما جوبهت بكونها غير قابلة للتنفيذ، البريطانية من دون أن تكون حقاً كما تقول في أحد لقاءاتها التلفزيونية القليلة، العراقية رغم أنها لم تعش في بلد عربي منذ عقود، بأناقتها الفريدة وملابسها الغريبة المدهشة التي كانت في فترة تصممها بنفسها وتلفها حول جسدها الممتلئ وتثبتها بالدبابيس، غريبة الأطوار كما تصف نفسها، والمأخوذة بالعمل إلى حد الإدمان، وأول امرأة تفوز بميدالية ذهبية من المعهد الملكي البريطاني للعمارة، مصدر الإلهام المزدوج، لبنات جنسها وللنساء العربيات في اقتحام عالم الهندسة المعمارية، وعدم الاعتراف بالحدود "يقولون إن النساء ليس لديهن منطق. حسناً، هذا محض هراء" طبعًا هي صاحبة العبارة.

لا غرابة في أن ترتبط زها حديد بصالة العرض الفنية الأصلية "سربنتاين غاليري" بعلاقة وطيدة، فهي فسحة خاصة بالأعمال الفنية الحديثة التي لا ترى للإبداع حدوداً من رسم ونحت ومجسمات وأعمال مفاهيمية وبصرية منذ افتتاحها عام 1970، ويعود للمعمارية الحائزة على جائزة بريتزكر، الفضل بإطلاق تقليد جناح السربنتاين "سربنتاين بافيون" الصيفي بعد تصميمها للجناح المؤقت الأول عام 2000 الذي كان من المقرر أن يبقى ليوم واحد فقط بغرض احتضان فعالية خاصة احتفالا بمرور 30 سنة على افتتاح الغاليري، إلّا أن جمالية التصميم وتميزه واستقطابه الكبير للإعجاب، قادا إلى اتخاذ قرار بالإبقاء عليه لمدة شهرين، ليتحول الأمر لاحقاً إلى تقليد يمنح فيه كل صيف واحد من كبار المصممين في العالم فرصة إبداع سرادقه الخاص في بناء مؤقت يستمر من يونيو حتى أكتوبر، ويترافق الحدث مع احتفاليات فنية وثقافية عديدة.
مقارنة مع أعمال أخرى لملكة المنحنيات القادمة من بلاد الرافدين، والتي دفعت بفن العمارة الى آفاق مذهلة وبالتكنولوجيا إلى أقصاها، مثل متحف ماكسي لفنون القرن الحادي والعشرين في روما ومحطة إطفاء الحريق في مدينة فايل في ألمانيا، وجسر الشيخ زايد في أبوظبي ومنصة التزحلق في أنسبورك في الولايات المتحدة، ومركز حيدر عليف في باكو، وصروح فاتنة أخرى، فإن مطعم "مغازين" الملحق بسربنتاين ساكلير غاليري يعتبر من أصغر أعمال حديد وأكثرها تواضعاً، ومع هذا فهو المكان الوحيد في قلب لندن الذي يمكن فيه تأمّل إبداع الفنانة التي درست العمارة في هذه المدينة وجعلتها مستقرها منذ نحو ثلاثة عقود، فمجمع السباحة الذي صممته واستضاف المنافسات الأولمبية عام 2012 يقع في القرية الأولمبية في أقصى شرق العاصمة البريطانية وغير مفتوح دائما للزيارة، والقبة الألفية التي صممت أحد أقسامها، مغلقة. فلندن على ما يبدو لا تزال رغم ريادتها الثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية، تستثمر سياحيًا بعراقتها وتقاليدها أكثر بكثير مما تستثمر في حداثويتها، وليس فيها حتى اليوم مجمع فني ثقافي ضخم بتصميم عمراني برؤية تليق بالقرن الحادي والعشرين كما تقول حديد، فالإنكليز كما تراهم "غير معنيين بالإبهار"، وفي الحقيقة لا يمكن مقارنة الكتل الإسمنتية الضخمة الخالية من الروح لمبان مثل مركز "رويال فيستيفال هول" للمسارح والمعارض، أو صالة "هيوارد غاليري" على ضفة التيمز في الساوث بانك، أو مجمع باربيكان الثقافي بتصميمه الكارثي، بتفكيكية زها حديد وتصاميمها التي تتحدى النمطية وتسر العين في انسيابية مذهلة وإحساس عال بالفراغ واحتفاء بالضوء في بحث عن الانسجام مع الطبيعة والفضاء وليس مع المجاور والمحيط.

رغم ذاك، فإن "ذا مغازين" يأتي إلى حد كبير محققاً لمفهوم التحدي لدى المعمارية التي اقتحمت بكل جدارة "نادي الرجال" كما توصف هندسة العمارة، بتصميمه الجريء الغريب تمامًا عن مبنى الغاليري الذي ألحق به والعائد الى عام 1805 ليكون مستودعًا للذخائر الحربية أي "مغازين" بالإنجليزية (من هنا جاء الاسم وليس بمعنى المجلة كما قد يتبادر إلى الذهن).

المصادفة غير المقصودة ربما، أنه يقع قبالة قصر كينسنغتون، مسكن الراحلة "الليدي ديانا"، إحدى أجرأ النساء في تحدي تقليدية وصرامة العائلة الملكية البريطانية. أما بحيرة السربنتاين فيكفيها أنها تستقبل في صبيحة يوم الميلاد من كل عام مسابقة "بيتر بان" للسباحة في مياهها الصقيعية المتجمدة في أبرد أيام الشتاء، بحيث تبدو هذه المعالم المتجاورة أقطاب في مثلث واحد عنوانه التحدي.

مع الرشفة الأخيرة من قهوتي، وبينما لم يكن يبدو عليّ سوى تأمل بريء لفنجان من البورسولين الأبيض فائق الانسيابية والأناقة، كنت أفكر. نعم يمكن للرحيل أن يكون ملهماً، حين يذكرك رغم قسوته بما يمكن للإنسان أن يخلفه على هذه الأرض. إذا كانت زها حديد قد تركت على وجه البسيطة كل تلك المباني الرائعة، كل ذلك الجهد الشغوف بتجميل العالم، فخلاصة كلمتها هي: لا تعقد ذراعيك وأنت تنظر بحسرة إلى الخراب. أنا بنيت أحلامي، إذن أنت أيضًا تستطيع أن تبنيها، لكن حذار من الأحلام المتواضعة.

دلالات

المساهمون