رحلتان على الباص 29 والمقعد 29

رحلتان على الباص 29 والمقعد 29

26 ابريل 2016
لوحة للفنان الأميركي بيتر سيكلس (Getty)
+ الخط -
أمين معلوف أحد أسماءٍ معدودة تحوِّلُ المرءَ إلى كاميكاز: أهرع لاقتناء أي كتاب له يوم صدوره، حتى وإن كنت أعرف مسبقاً أني لن أقرأه قبل بضعة أسابيع من شرائه.
لم يكن هرعي نحو كتابه الأخير: "مقعدٌ على السين"، بسبب هذه الطقوس "الدينية" فقط، لكن لعلاقةٍ حميمةٍ تربطني بالرقم 29 ذي الأهمية المركزية في هذا الكتاب.

يعرف الجميع أن أمين معلوف دخل مؤخراً أكاديمية "الخالدين" بعد وفاة أحد أهم قامات القرن العشرين: الأنثروبولوجي الشهير كلود ليفي شتروس صاحب الكرسي رقم 29.
تضم الأكاديمية الفرنسية أربعين مقعداً مثقلاً بالذكريات والتاريخ، تطل على نهر السين، تحت قبة من قباب الأبدية. لا يُنتخب لعضويتها المرء إلا بعد جهاد وعطاء أسطوريين، وفشلٍ متوالٍ غالبًا، كما حدث مثلاً لفيكتور هوغو، وبيير كورني، وفولتير.

يدخلها المختار بعد ذلك، برفقة بقية الخالدين، في حفلٍ إعلامي وطني مبجّل؛ بطاقم ملابسٍ تقليدي أخضر، وسيف على أيمن الخاصرة. يقرأ فيها خطاباً تاريخياً مكرساً لاستعراض حياة وعطاء من ورث منه المقعد.


غنيٌّ عن الذكر أن صاحب "صخرة طانيوس" و"سمرقند"، و"ليون الأفريقي" جسرٌ يربط الشرق بالغرب بمؤلفاته الروائية الخالدة. غير أنه في كتابه الأخير وجد مواده الخام الأثيرة جميعها معاً، ليفجر كل مواهبه دفعة واحدة. يحكي فيه قصّة هذا المقعد رقم 29، الذي جلس عليه 18 "خالداً"، منذ تأسّس الأكاديمية الفرنسية عام 1634.

أوّلهم: بيير باردان، فيلسوفٌ وعالم رياضيات. اقترِحَ عليه الانتساب للأكاديمية حال ولادتها من رحم دائرةٍ سريّة مغلقة ضمّت بعض كبار أدباء وكتاب فرنسا في عصر الكاردينال دو ريشيليو.

أجاد أحد كبار الدائرة، الناقد والشاعر شابلان، إقناع البقية بقبول تحويلها إلى أكاديمية علنية، بعد أن اكتشِف أمرها لِلكاردينال، وأضحى من الخطورة بمكان رفض إرادة الحاكم. لم يتحمّس باردان لدخول الأكاديمية لأنها كانت تضم واحداً سرق منه عنواناً أسرّهُ له، لِكتابٍ ينوي نشره.
نهاية باردان لم تكن سعيدة: ضحى بحياتِه غرقاً في نهر السين لينقذ تلميذه. دعا ذلك "الخالدين" للتفكير بالطريقة الاحتفالية التي يودعون بها من يغادر منهم الحياة. اتفقوا على حفل استثنائي خاص لكل فقيد، في الحاضر والمستقبل؛ ونظم مدح شعري ينقش على ضريحه. ثم تم إلغاء هذا الطقس عقب تجربة باردان، بسبب خلل فني في قصيدة مدحه، كتبها مع ذلك شابلان نفسه، أحد أهم أسماء أوروبا حينها. قادت القصيدة إلى لغطٍ وسخريّة. السبب: لم ينجح الشاعر في اختيار كلمتين فيها، لِهوسِه بالقافية على حساب رداءتهما.

تغيّرت طقوس توديع فقداء الأكاديمية عقب ذلك، واستبدلت بتقاليد إلقاء خطاب نعي الراحل من عضو الأكاديمية الذي يرث مقعده.



لعلّ ذلك الخطاب هو ما دفع معلوف لِتأليف هذه الرواية. إذ عندما درس سير أسلافه الثمانية عشر، فوجئ أن أحدهم مؤلف السبعة مجلدات عن "تاريخ الحروب الصليبية" : جوزيف ميشو. والحروب الصليبية هي موضوع معلوف في روايته الأولى "الحروب الصليبية، كما رآها العرب".

شعر معلوف بحسرةٍ لأنه لن يستطيع، في الخطاب، استعراض علاقته بميشو، وسيرة حياته الثرية، هو الذي أدين مرّتين بحكم الإعدام، ونجا من إحداهما قبل التنفيذ بقليل، بتخطيط أحد المعجبين به، وبدون علمه، وبطريقة عبقرية مثيرة سردها معلوف بحبكةٍ وإيقاعٍ روائيين ممتعين: "كان طيف ميشو حاضراً بقربي تحت قبّة الأكاديمية عندما نهضتُ لإلقاء خطابي"، يقول في مقدمة كتابه.

وظّف معلوف مواهبه ليكتب رواية واحدة تتعانق فيها 18 رواية صغيرة. أو، لِنقل، لِيكتب مؤلفاً تاريخيّاً يسرد، من 18 زاوية، الأربعة قرون الأخيرة من تاريخ فرنسا، بلغةٍ روائية فنية جذابةٍ آسرة.


وأجاد فيها الاختيار الفني للتفاصيل، وهندسة البنية الخاصّة بكل فصل، والإلمام بكل المراجع والأعمال الشاسعة لأسلافه الثمانية عشر. كلّ ذلك في 330 صفحة تشرب شرباً في يوم وليلة.

بعد فصل باردان، تأتي قصة حياة نيكولا بوربون الذي لا يكتب إلا باللاتينية، ثمّ فصل ذلك الذي انتخبه الأكاديميون بدلاً من بيير كورني، نجمِ عصرِه، لتلافي "دعك" روح الكاردينال دو ريشيليو المعادي لكورني. سيقول الفيلسوف دو ألمبير (Jean le Rond D'Alembert)، بعد قرنٍ من ذلك الاختيار الموارب: "بسببهم تحوّل لقب الأكاديمي إلى عاهرة".

تتواصل الفصول نحو السابع، عن حياة من اختاره الأكاديميون بدلاً من فولتير. وتتقدّم نحو العاشر المكرّسِ لِمن أُدين بالإعدام مرّتين، حبيب أمين معلوف: المؤرخ جوزيف ميشو.
لعل هذا الفصل يضيء أيضاً تاريخ الثورة الفرنسية وبعض تفاصيلها المهمة، بتكثيف لذيذ، ومن زاوية أخاذة مداهمة.

يتقدم ليصل في الثالث عشر إلى شخص مهم جداً، عاش فترة من حياته في قرية في جبل لبنان، وكتب فيها أشهر وأهم كتبه: "حياة عيسى"، تجرأ فيه على تقديم المسيح كإنسان، ليثير حينها سخطاً عارماً في الأوساط الدينية والشعبية: إرنست رينان.

قصة حياة رينان طويلة، استحوذتني فيها رسالة نابليون الثالث، للاعتذار له على إيقاف محاضراته في "كوليج دو فرانس" لأنها "تمسّ أسس الديانة المسيحية، في كليّة تابعة للدولة"، رغم إعجاب الإمبراطور الشخصي برينان، كما ذكّره في الرسالة.

ثم عاد رينان لاحقاً لكوليج دو فرانس كبطلٍ هذه المرة، بعد سقوط الإمبراطورية الفرنسية الثانية، وقبل أن يعتبر الجميع، بمن فيهم المسيحييون المتنورون، أنه أنقذ المسيحية وجعلها تتأقلم مع الحضارة الحديثة، بإدخاله منهج النقد العلمي التاريخي لقراءة التاريخ الديني.
يختتم معلوف روايته بـ الإنثروبولوجي الخالد: كلود ليفي شتروس.


أعود لما قلته في البداية عن دور الرقم 29 في هروعي نحو كتاب معلوف بانجراف فاق العادة هذه المرّة: ديوان شعر عنوانه "في مديح خط الباص رقم 29".

ينطلق هذا الباص من محطّة قطار سانت لازار في غرب باريس، حتّى شرقها. ماراً بـ 35 محطة إحداها تحت أقدام عمارةٍ سكنتْ فيها ابنتي قبل سنتين.
كنت أستقل هذا الباص كل أسبوعٍ تقريبًا، ووجدت الديوان مصادفة حال صدوره في مكتبة قرب إحدى محطاته.

أحيا الشاعر في ديوانه، بأسلوبه الخاص، تقليداً شعرياً عريقاً، أبدع فيه قبله لويس أراغون وغيوم أبولينير وغيرهم ممن تغنّت قصائدهم بشوارع باريس بعشقٍ مطلق، لا سيما وأن الشاعراستقل يومياً ذلك الباص خلال سبع سنوات، وارتبط مع محطاته بعلاقة حميمة.

بنية الديوان الذي ظهر قبل رواية معلوف بسنتين: 35 فقرة على وزن البحر الإسكندراني ذي المقاطع الستة، وكل فقرة منها مكرّسة لمحطة من محطات الباص.

جذبني ذلك الديوان ورحلته الشعرية في المكان، ثم أدهشتني هذه الرحلة المعلوفية في باص الزمان، على المقعد 29. ممتع ومفيد جداً اكتشاف جميع محطاتها الخالدة: أعمال أبطالها، صراعاتهم، غيراتهم، وعلاقتهم المثيرة بالسلطة والسياسة. وموقعهم الجوهري الساطع في كل مناحي الحياة في الماضي، قبل أن يخسف موقعهم كثيراً في هذا الزمن الجديد، زمن الفقاعات المالية والشاشات، الذي يمكن أن يصبح المرء فيه نجم النجوم، من دون أن تربطه علاقة بالفكر والعلم والفنون.


خسف موقعهم كثيراً أيضاً لسلسلة أسباب ذاتية محضة، أحدها أن النفقات المرتفعة لهذه الأكاديمية صارت مثار غضب الكثيرين: مليونان ونصف المليون يورو لنفقات أعضائها الأربعين، تزداد سنوياً رغم العدد الثابت لأعضائها منذ تأسيسها.

أدّى ذلك إلى نقدٍ لاذع من "محكمة الحسابات" وكشوفات لمجمل النفقات الفاسدة التي اكتسبها البعض: "الخالدون يكلفون كثيراً".
الأهم: معظم الأكاديميين مومياءات بميول فكرية يمينية رجعية. الطريقة التي دخل بها الفيلسوف آلان فانكلكروت الأكاديمية في 2014 أثارت سخطاً لخصه عنوان صحيفة: "اليمين المتطرف لا موقع له تحت القبّة".

من ينسى بالمقابل أن الكاتب الكبير إميل زولا، صاحب رسالة "إني أتّهم"، لم ينل عند ترشيحه للأكاديمية، قبل حوالي قرنين، غير صوتٍ واحد.

الأسوأ: الأكاديمية هيلين كارير دانكو، التي أطلقت من إذاعة روسيا تصريحات تافهة لا تخلو من العنصرية عقب أحداث الضواحي في فرنسا في 2005، ظلّت تضع في مكتبها صورة أحد الأكاديمين الذي طرد من الأكاديمية بعد الحرب العالمية الثانية لمواقفه النازية.
صُدم فيليب سوليرس عندما رأى الصورة، ورفض ترشيح نفسه لدخول الأكاديمية بسبب ذلك.

المساهمون