ميلود لبيض أو حكايات الجسد الأصلي

ميلود لبيض أو حكايات الجسد الأصلي

05 يناير 2016
من أعمال ميلود لبيض(العربي الجديد)
+ الخط -
لم يكن الرجل من أبناء مدن الشمال التي حظي أبناؤها بالتعليم العلمي والأدبي والفني، كما لم يكن من الذين ارتادوا مدارس باريس أو مدريد أو روما، كالعشرات من مجايليه أبناء أواخر الثلاثنيات. كان فقط ذلك الطفل الآتي من تخوم الصحراء، اليتيم بشكل مبكر والذي لا يحلم سوى بما يقيه البرد ويقيه الجوع، هو وأمه. لم يكن يدري ذلك الطفل اليتيم أنه سيغدو أحد البصمات الكبرى للفن الحديث بالمغرب، بعد الشرقاوي والغرباوي وإلى جانب القاسمي، ولا أحد والرواد المعلّمين لجيل بكامله. فلقد كان له الفضل في احتضان أسماء وسَمت الفن في الستينيات والسبعينيات وما بعدها، كمحمد القاسمي وأحمد الورديغي وغيرهما.
ميلود لبيض ظاهرة من ظواهر الفن المغربي والعربي. إنه يذكرني بأحد مجايليه من تونس، الذي رحل، هو أيضاً، من سنوات فقط. عبد الرزاق الساحلي، حين زرته في بيته في ضواحي تونس من بضع سنوات، وقفت على عالمه الإبداعي القريب جداً من عالم ميلود لبيض، على الرغم من أن الأول درس الفن بباريس وأن الثاني فنان عصامي. كانا يعرفان بعضهما بعضاً ويتبادلان الود والمحبة والتقارب. من يقارب الرجل يجد فيه من الدماثة والطيبوبة والتميز ما جعله أحد الفنانين بالمغرب الأكثر احتراماً والأكثر شعبية إلى جانب القاسمي. كان صديقاً لكبار الأدباء، وخصوصاً محمد برادة، ولكبار الشخصيات الفنية. لم يكن يؤمن بالقيمة التجارية للفن. لذلك فقد عاش بشكل متواضع في شقة بوسط العاصمة الرباط، التي حول ساحتها إلى مرسم. كانت الشقة تعج بالأشياء التي يجمع. وكان عشقه للدمى والساعات كبيراً، حيث كانت الشقة حبلى بالأشياء من النوادر التي يحرص على جمعها.
عاش فناننا طفولة الترحال. وحين قادته خطاه إلى مدينة سلا، المتاخمة للعاصمة بشمال المغرب، كان عشقه للأرض قد زج به، منذ البداية، في مهنة اكتسبها من غير أن تلفه تماماً في شرنقة أغصانها. ميلود البستاني صار يشتغل هنا هناك في حدائق العائلات الأجنبية والبورجوازية. يصوغ حدائقها كما لو كانت لوحة، يداعب ألوان الشجر ويصوغ تفاصيلها وتوشيجاتها وتآليفها. وفي خضم هذه الحرفة، اكتشف ولعه بالرسم والتشكيل. ولأنه كان قد بدأ
يرطن باللغة الفرنسية فإن ذلك سهل عليه الأمر، خصوصاً وأن المصادفة التي جعلت الجيلالي الغرباوي وغيره يتعلمون الرسم، هي نفسها التي سوف تسنح لميلود. ففي مدينة كالرباط، حيث لا وجود لمدرسة ولا لكلية للفنون الجميلة، كانت الدروس التي تمنحها بعض الشخصيات المولوعة بالتعليم تمنح فضاء خاصاً لعشاق هذا الفن والموهوبين منهم بالأخص. السيدة جاكلين دو برودسكيس (1912-2006)، كان لها فضاء شخصي تقدم فيه الدروس بالموازاة مع الورشات التي كانت تنظمها وزارة الشبيبة والرياضة. وقد ارتاده بعضٌ من الفنانين كالمرحوم محمد القاسمي في بداية الستينيات. وطبعاً كانت هذه الفترة مرحلة استكشاف للذات وللآفاق التي تمنحها التشكيلات اللونية. وقد انتبهت الأستاذة بشكل خاص إلى موهبة تلميذها وأطرت عليه وعبرت عن فتنتها بمكنوناته الإبداعية.
في أواخر الخمسينيات بدأ ميلود لبيض يمارس إبداعه بهوس مستعملاً الحبر الصيني والباصطيل، غائصاً في ذاته يستخرج منها بصمت ما يدله على علامات كينونته. وككل "الموهوبين" عثر ميلود، منذ البداية، على "أسلوبه"، أعني على توقيعه التشكيلي. فقد اختار التداوير وتفاعلاتها وتداخلاتها، معلناً بذلك، أنه فنان الجسد بامتياز، سواء كان أمومياً أم ذاتياً، أنثوياً أم ذكورياً. هذا الاختيار يخضع لديه لمصدريْن وجوديين اثنين: عشقه التليد والأبدي للأم وهوْسه بالجسد باعتباره كياناً أنثوياً وذكورياً في الآن نفسه. والحقيقة أن هذين المصدرين ينمّان عن نظرة خصوصية وعن كينونة وحّادة لا تهمها الفروق الجنسية بين الأنواع بقدر ما يفتنها ما يجاوز مبدأ الذكورة والأنوثة.
في هذا المبدأ الوجودي يكمن الاختلاف الذي عاشه ميلود لبيض بصمت وبشكل إبداعي في الآن نفسه. وربما كان هذا الغنى الداخلي وراء طابعه الفني المغامر. فالفنان التقى بالغرباوي في أواخر الستينيات واشتغل معه، كما التقى بالرجل الجمّاعة الذي احتضنه والذي صار مالكاً لأكبر مجموعة فنية خاصة بالبلاد. لكن ميلود (كما يحلو له أن يوقّع لوحاته دائماً) ظل متحرراً من كل الارتباطات. فاشتغل باستمرار في اتجاهات متعددة. في أعماله نجد بصمة الغرباوي في حركيتها المتجاوزة لثنائية التشخيص والتجريد، كما نجد بصمات أخرى لبول كلي بالأخص الذي أعجب بأعماله منذ البداية ويدين له بالأخص بعلاقته بالنور والألوان. كما نجد، أيضاً، تلك الرغبة في التجديد. فقد ارتاد في أواسط السبعينيات عالم التجريد، الذي يبدو أنه لم يمنحه تلك الشحنات التي وجدها في عوالم التعبير الحركي. ثم إنه، أيضاً، في لحظة معينة بدأ يشتغل بالمواد الاصطناعية ويشكل بها لوحات بها نتوءات أشبه بنهود أنثوية بارزة ونافرة وبلون أحادي يتغير من لوحة لأخرى.
غير أن ميلود على الرغم من كل هذه المغامرات ظل وفياً لعالمه وللاوعيه الفني. فإذا كانت أعماله تنسج تداوير الجسد بشكل غير مباشر فإن علاقته بأمه راضية (وهي بالمناسبة إحدى الفنانات الفطريات المعروفات) ظلت علاقة جنينيّة وحنينية كانت ذات أثر كبير في نفسه وفي فنه. ويمكن اعتبار إحدى اللوحات، التي تركها بعد وفاته سنة 2008 رسمها لأمه، أحد أهم الأعمال الفنية التي تعبر عن أسلوبه. والحقيقة أن الفنان في أواخر حياته صار يرسم أعمالاً صغيرة يحمّلها كثيراً من هواجسه الدفينة، وبالأخص علاقته بالرحم الأمومي. إنها بورتريهات شخصية، يتماهى فيها الأمومي بالشخصي، والأنثوي بالذكوري والحياة بالموت...
كان ميلود لبيض إحدى علائم الفن المغربي التي رافقتْ تطورَه منذ الستينيات، حاضراً في كل البينالات والمهرجانات الفنية العربية، مساهماً في كل الحركات. لم يكن من أصحاب الخطابات، لكن ما إن تقاربه حتى تكتشف أنه ذاكرة الفن المغربي الوقادة. كان مرجعاً لي في كثيرٍ من المعطيات والتواريخ، أدققها من خلال حكاياته، وأستشكف خباياها من خلال محاورته. لم يكن يبتغي المال الكثير ثمناً للوحاته، كان يكتفي بالقليل، حتى من المتاحف والأثرياء من الجماعين. عاش متواضعاً ومات كذلك. لكن ما إن توفي حتى اشتعلت أثمنة لوحاته، التي قفزت في مدة وجيزة إلى عشرة أضعاف ثمنها حين كان على قيد الحياة... وكأن اللوحة تنتقم لفقر صاحبها بعد مماته...
إقرأ أيضا: صناعة العالم

دلالات

المساهمون