الديكتاتور

الديكتاتور

05 يناير 2016
زيتية لكاندينسكي(Getty)
+ الخط -
أنتجت السينما عام 1940 فيلماً يقوم فيه تشارلي شابلن بدور ديكتاتور يثير الضحك. في أحد المشاهد المعبِّرة، يظهر تشارلي شابلن بكل قيافته الديكتاتورية، مرتدياً البذة العسكرية الأنيقة. وجهه مشرق وشعره مرصوف كطابور من الجنود وهو يراقص "الكرة الأرضية"، فيقذفها بإصبعه وبقبضته وبحذائه العسكري ثم بمؤخرته، لتتراقص في الهواء على وقع حركاته، ثم وفي لحظة حاسمة، يضمها بقوة، فينفجر بالون الكرة الأرضية في وجهه، لتتناثر تصفيفة شعره، وتنقبض سحنته المنبسطة. تنفجر الدلالات مع انفجار البالون وتهدُّل خدّي الديكتاتور الخائب.
يستفيد عادل إمام من هذا الفيلم ويوظِّف فكرته الرئيسية في تشابه الديكتاتور التام مع أحد المواطنين، فيصنع من ذلك مسرحية الزعيم، وينفرد خلال فصولها بإطلاق النكات و"القفشات"، فيما يترك لمساعديه إدارة البلاد، يجتهد كاتب المسرحية في إضافة مقاطع هزلية في البداية، ومشاهد مأساوية تحوي كمّاً هائلاً من الحكم عند ختام المسرحية، لكن اعتماده الأساسي ينصبّ على فكرة تشابه الرجل الفقير المهمّش مع زعيم البلاد الديكتاتور الذي يعيش ببذخ مبالغ في وصفه ويسير بالبلاد إلى الهاوية لدواعي مصالحه الشخصية.
بالعودة لشخصية الديكتاتور في كلا العملين، حيث ظهر شخصاً خفيف الظلِّ، محدود المعرفة، قليل الذكاء، يعتمد على عدد قليل من المساعدين ويكتفي بتوجيه الأوامر الصارمة إليهم، وهذه عادة سينمائية سيئة تظهر الشخصية السلبية مجرَّدة ومفضوحة وعارية من أي صفة بشرية وفق تحيُّز درامي متطرّف نحو الخير.. هذا النوع من التحيّز الساذج الذي جعل تشارلي شابلن ينهي فيلمه بخطاب انفعالي، ذي طبيعة توجيهية وأفكار طوباوية، دام أكثر من عشر دقائق، افترضَ النقاء في طبيعة البشر، واعتبرَ أن قيم الخير ستسود بمجرد تذكير الناس بها، فيما قام عادل إمام بتصفية رجال الديكتاتور واحداً بعد آخر، وعاد إلى صفوف الشعب مفترضاً أن القضية انتهت بنهاية بضعة أشخاص فاسدين.
الإصرار الدرامي على تناول الديكتاتور بشكل كوميدي لا يتسق مع ما ورد في كتب التاريخ والروايات.. فنجده في رواية "حفلة التيس"، للكاتب اللاتيني "ماريو فاراغاس يوسا"، شخصية مرعبة يخافها الجميع ويبذل الكاتب جهداً جباراً لإلصاق جميع الموبقات بالديكتاتور فيصوره على هيئة شيطان صارم ينزل العقوبات بالجميع ويستهزئ بأقرب الناس إليه على الملأ ودون رحمة، ناهيك عن صفة "زوغان العين" التي لا تفارق الصورة النمطية التي نعرفها عن أي ديكتاتور، فيغتصب من يشاء من الفتيات حتى ذوات الأعمار الصغيرة، ويعاني ككل الأشرار من مرض مزمن يداريه قدر المستطاع عن عيون الناس..
يختلف الأمر في كتاب "الأمير" لميكيافيلي الذي ألّفه، على ما يشاع، ليقدمه كهدية للحاكم "لورنزو دي ميديشي"، يرشده فيها إلى الطرق المثلى للدفاع عن كرسيه مدى الحياة ونقله لأبنائه بعد الموت. هنا يعدّد ميكيافيلي الأخطار المتربصة بالحاكم سواء من خارج البلاد أو من
داخلها، ويقدم نصائح جزيلة للديكتاتور عن كيفية مكافحتها بالشكل الأمثل الذي يضمن للحاكم بقاءه حتى لو على جثث أفراد شعبه..
تقترب الرواية والكتب العلمية من وصف شخصية الديكتاتور الحقيقية أكثر من اقتراب دراما عادل إمام وتشارلي شابلن منها، فالديكتاتور ليس مجرد خيال مفزع يمكن لشخص يشبهه أن يحلَّ محله بسهولة، وأن يحوِّل السهل المتصحّر إلى حقول خضراء بخطاب منفعل أو بإزالة حفنة من المساعدين، فهو أقرب إلى طبقة اجتماعية وسياسية ناضجة ومكتملة النمو، لديها برنامج وهدف، وتبحث عن وسيلة لتطبيق برامجها وتحقيق أهدافها. قطر اهتمامها ضيّق لا يكاد يتجاوز شعورها الأناني، ولا تجد نفسها إلا على القمة وبمسافة كافية عن كل الطبقات الأخرى. تدرك هذه الطبقة خطورة خيارها، لذلك قد تلجأ أحياناً إلى سلوك انتحاري تحطم فيه كل شيء إذا تم الاقتراب من ميّزاتها أو مكتسباتها. لم تورد كتب التاريخ عن شخصية ديكتاتور روماني شهير اسمه "جايوس" شيئاً ساخراً، إلا لقبه الذي اشتهر به "كاليغولا"، ويعني الحذاء الروماني، وكُنّي به في صغره ولازمه طوال حياته وحتى اليوم.. وحُكي عن شخصه الكثير ومزج بين عبثه الذي يقارب الجنون وطمعه الذي وصل حد رغبته في امتلاك النجوم.. كرّس كاليغولا عادة نشر التماثيل الشخصية له في أنحاء البلاد على طولها وعرضها، وهي عادة لا زال معظم ديكتاتوريي العصر الحديث يستخدمونها لإرضاء خصلة مريضة داخل نفوسهم تَخمد نارها كلما رأت صورتها وتماثيلها في الدوائر الرسمية والساحات العامة.. لكن كاليغولا، ولأنه كان يحكم إمبراطورية الرومان العظيمة، فقد استفحلت حالته تلك حتى اعتمد أسلوب نشر تماثيله الشخصية بهدف إغاظة سكان وقوميات معيّنة فيستبدل مقدساتهم بها، كما فعل ليستفز مشاعر اليهود والفراعنة.. في قصة الدعوة التي وجّهها كاليغولا لكبار معاونيه ومن ثم ملء أطباقهم بالتبن والشعير، الذي تأكله دوابه، من قبيل الإهانة والاستصغار لكل من هم حوله، يصدّق الديكتاتور نفسه، وهي مسألة سايكولوجية مهمة في تكوينه النفسي، ويتخيّل نفسه أمام مرآة كبيرة تعكس رغباته وخيالاته على شكل حقائق يجسِّدها الزجاج الذي أمامه، يوقظه منها اعتراض أحد الموجودين ويدعى "براكوس"، الذي صرخ في وجهه ورمى بحذائه أمام حصان كاليغولا المدلل، وتبع ذلك هرج ومرج انتهى، على ما تقول الإشاعات، بالقضاء على كاليغولا وتخليص العالم من شره ببساطة وسهولة.. وفق سياق أقرب للدراما منه إلى الحقيقة، غطت عليه شائعة أكثر قرباً للواقع تصف بؤس جنديين تابعين له اتفقا على التخلص منه لكثرة ما لاقيا معه من ذل وهوان فاستفردا به، في مصادفة غريبة لم يكن مسلحاً حينها، وأكثرا من طعنه بشكل جنوني، ثم نالت زوجته وابنته عقاباً مماثلاً من مجموعة جنود..
الصدفة أو الخطط المحكمة تكون غالباً مجدية، حيث لا تنفع الخطب ولا المحاربة النظرية للفساد في إزالة مثل هؤلاء الناس. قد يلزم ما هو أكبر من ذلك بكثير، شيء يقترب من الجَيَشان يصيب عقلية الديكتاتور بالاضطراب ويخلخل ترابطها ولا يتوقف إلا بتفتيتها، وقد يتوجب من كتّاب السيناريو في هذه المرحلة بالذات تجنّب الكوميديا، فالديكتاتور ليس مجرد رجل أخرق معتوه يمكن لماسح حذائه أن يسخر منه.
إقرأ أيضا: عن المرنيسي وشكري

المساهمون