الهجرة ليست حلم السوري

الهجرة ليست حلم السوري

08 سبتمبر 2015
لوحة للفنانة السعودية فاطمة النمر
+ الخط -
استفاقوا على اقتلاع جماعي، لم يكونوا قد فكروا فيه من قبل. هو ليس كاقتلاع أشجار معمّرة خوفاً من عبادتها كما فعل أصحاب الرايات السوداء في مدينة إدلب. وليس خروجاً لشبابٍ طامح إلى بلاد المغترب لغاية معلنة وهي تحسين الأحوال، وربما لغايات خافية لا يعملها إلا هم والراسخون في العلم. وليس بسبب فقدان المعيل الوحيد لأطفال صغارٍ ويحتاجون الكثير ليصبحوا راشدين كما يحصل في الأعوام الخمسة المنصرمة وبشكل يومي.
لا. لا. الاقتلاع هذه المرة، يشمل أشكالاً عديدة من التهجير والهجرة؛ وقد تمّ بفعل خيار الموت والقتل والدمار المتستر بالعلمانية والوطنية، الذي طال الملايين من البشر. أولئك الذين ينجبون أطفالاً كي يرثوهم، ويحققوا للأهل أحلام رؤية الأحفاد. إنهم الذين يلقنوننا درساً عجيباً، فرغم إيداع العشرات من بني أرحامهم في عالم الله، نجدهم يعيدون الكَرّة تلو الأخرى. هؤلاء لا ينجبون الحياة فقط بل والأمل كذلك.
فرضَ الخيار العدمي هذا، على من لم يمت وما زال يلفظ أنفاسه، التهجير؛ فأفرغت بلدات وقرى من أهلها في كل سورية، وبقي أهل المناطق التي يسيّطر عليها من يعتقد أن لا شيء تغيّر تحت ضوء الشمس، وكل ما يقال هنا وهناك مجرد إشاعات مُغرضةٍ من أناس لطالما تربّصوا به، ولطالما أعدّوا له العِدّد، والمسألة تتطلّب عدّة شهور وسيتم تطهير "السرطان" من الجسد وسيتعافى. الشهور تلك أصبحت سنوات خمس وما زال الأفق حَبٍلاً بسنواتٍ إضافية. وهناك رحيل آخر تمّ بفعل جماعاتٍ تدّعي صلةً بالله ونسباً إليه في كل أفعالها البغيضة، وبدورها نهبت البيوت وقتلت وهجّرت، وفي أماكن تواجدها فرضت قيوداً أشدّ ممّا يُحكى عن حدود الله ذاتها.
ولأن الناس تحب الله وتحب الحياة، اختارت الهجرة مجدداً إلى بلاد استبداد سياسي آخر وعدم العيش ببلاد الاستبداد الديني. حدث ذلك لأهالي حلب فكانت وجهتهم مدينة طرطوس، واللاذقية ودمشق والسويداء، هذه المدن بدورها تملأ حاراتها صور لشهداء الحفاظ على النظام. وقد قَدِمَت إليها أعداد كثيرة من أهالي حمص أو حماه أو درعا، وهناك من اختار تركيا، والأردن ولبنان وإلى أية بقاع وطئتها أقدام البشر ولو في أقاصي الأرض، وتم ذلك بفعل الموت المتربّص بهم في كل دقيقة وثانية، في أرض المعارك.
التهجير، قطيعة مع المكان، والتاريخ، والذكريات، والحب، والحزن، والمقابر، والأرض، والشجر، والهواء، قطيعة مع كل شيء. تهجير عن آلاف التفاصيل اليومية التي تشكل ذاكرة المقتلعين. الهجرة أخف وطأة، فهي تتم على مهلٍ، يوضّب من أجلها المسافر حقائبه، وثيابه ويودّع أصدقاءه، وربما يسير في شوارع مدينته ويتصل بأصدقائه وقد يجمعهم بسهرة لطيفة كليلة وداعٍ، ويمكن أن يزور مقبرة أجداده وذويه. أما المهجّر، فليس له من هذا الترف شيء أبداً. فقد يخرج بثياب النوم، أو بما يرتديه وربما دون حذاء وربما ينسى طفلاً له نائمًا. هو يترك خلفه حياة كاملة، حيّه، بلدته، مدينته، حكاياه، وربما جزءاً من عائلته.
هناك هجرة الخوف من الموت والبحث عن الأمان، ومنها لزيادة الأرباح في بلاد آمنة، وهناك من كان بالأصل يحلم بالهجرة، فجاء تطور الأحداث ليسمح له بتحقيق الأمنيات "المريضة". الأوهام عند هذا البعض تدفعه للظنّ أنه أهم من أهله وحياته السابقة وبلده، ومكانه الطبيعي في بلاد الحضارة.

اقرأ أيضاً: موجات... ودوار البحر

الهجرة ليست نزهة إلا للمؤثّرين وأصحاب الأموال. بقية الناس تبيع منازلها وأراضيها وتستقيل من العمل، وقد تموت في البحار أو بطلقات لحراس الحدود، أو قد يكون الموت بأيدي عصابات إجرامية تقوم بالنقل ولكنها تستبقي بعض الفتيات للاستمتاع.
التهجير أو الهجرة يتمان من دون توقف، وبإصرار بالغ، وهناك من سبق الآخرين إلى السويد أو النمسا أو هولندا وسواها، ويسخر من الذين بقوا، متسائلاً ماذا بقي في البلاد لتعاندوا طلب اللجوء؟ أليست هذه بلاد أصلاً؟ كثيرة هذه الأسئلة التي تبدو كأنها طبيعية، فالحرب أصبحت سيدة الحضور بلا منازع.
فعلاً فماذا سيفعل المدنيون في الصراع المسلح، وماذا سيفعلون أمام مئات الجماعات المسلحة. ثم إن الحريات تتقلّص بشكل هستيري، ويكاد المرء ببلاد الجهاديات يُحاسب على مقدار الهواء الذي يستنشقه، وفي مناطق النظام على أي رأي، عدا الفقر وغياب الأمن واحتمال حدوث الاعتقال لأتفه الأسباب، والموت بطلقة طائشة من أحد المسلحين.
هذه ليست تفاصيل تُقرأ في نص، هذا جزء من حياة السوريين، جزء من حكاياهم اليومية. مقابل ذلك هناك من يُصرّ على البقاء، ولكنه بدوره وأمام أي امتحان من قوى القتل العلمانية أو من أصحاب الرايات السوداء، يفكر جدياً في الرحيل. خيارات الموت كارثية وتحيق بالسوريين أينما ولّوا وجوههم.
في بلاد الهناء والسعادة، يصعب أن تجد ممّن تجاوز الثلاثين ومتوافق مع الحياة الجديدة. فهم يطلقون الشكوى والحنين اليومي. راغبون بالعودة، وكلامهم ليس كذباً حالما تهدأ الأوضاع. تتحطم الأحلام يومياً أمام هؤلاء، وإذا لا يشكون من الأمان، ولكنهم يشكون من الحياة ذاتها. أرواحهم تقول: لا حياة خارج أماكن العقود الثلاثة أو الأربعة أو أزيد التي عاشها المرء. فامرأة تقول سأؤمّن مستقبل الأولاد وأعود، وأخرى تقول أمضي الوقت بأكمله أقلّب صور الأمس، وثالث يؤكد الحياة لا تطاق هنا، ورابع نعيش ونأكل، وقد أصحبنا كبغال معلوفة، ورابع يجلس متذكراً من غادر الحياة إلى الأبدية، وهكذا يتتالى الألم.
في المدن التي انتقل إليها ملايين الناس من مدنهم المدمرة، ورغم الاختلاف في العادات والدين والعيش في منازل سيئة والعيش على أغذية وفرش المساعدات الرديئة، فإن الجميع يحاول التغلّب على المصاعب، يحاولون تجاوز صغائرٍ يقوم بها أفراد المجتمع المحلي. هنا تجد امرأة تحاول التعلّم، وأولاد يكسبون نقوداً إضافية لإعالة الأسر. وأسر يعيلها أطفال. ويصادفك رجل يسمح لزوجته وبناته بترك الحجاب. هذا الانتقال، ورغم كارثية سببه، يقول البعض أنار عقولنا على حياة مختلفة في مدينة أخرى، قد لا تكون أفضل ولكنها جديدة تماماً.
ومن مصاعب المهجرين للمدن المجاورة، ما يتعلق منها باعتبارات الدين. هذه تسمّم الحياة فوراً، فقد تندفع مجموعات للتهجّم عليهم باسم الدين أو تشويه النقاء المحلي "الطائفي"! أو إفساد الحياة "المتحضّرة"، وقبالة ذلك هناك بشر يعملون كالنحل من أجل تأمين حاجات الملايين الوافدة. ولو أنّ أغلبية الناس لا تبدي موقفاً ما، ولكنها أيضاً لا تتدخل بشؤونهم الخاصة. بروز سلبيات معيّنة ولأسباب متعددة، يؤكد كثيرون أنها ليست حقيقة، وهي طارئة على حياتهم، وربما هم مجبرون عليها لأسباب متعلقة بالخوف أو فقدان أحد الأقارب أو الزعرنة أو الوعي المشوّه.
المهجرون بالإكراه، والخارجون من الحصار، من حمص ودير الزور ومخيم اليرموك والمعضمية وداريا، ومئات البلدات والقرى، هؤلاء لا يمكن للكتب وأفلام السينما والمسرح والروايات أن تدوّن معاناتهم، ولا أن تشرح تفاصيل الحياة اليومية التي عاشوها، كالخوف من الموت والجوع والاغتصاب ومن رؤية أخٍ يتألم، وابن يطلب حليباً. وما قد يترك آثاراً لا تندمل أن تطلب سيدة الحماية فلا يتمكّن رجلها أو ابنها من ذلك. وهناك هزال الجسد التدريجي، وأمراضه، وصراخ الألم المستمر.
قصص كثيرة لا يجدون أية طريقة لتفاديها، فيكون الموت البطيء بكل بساطة وتعاسة وألم. نقصان الأغذية تحايل عليه الناس بما توفر، فتناولوا كل شيء يؤكل حتى وصولوا إلى أغصان الشجر، ولحوم القطط والكلاب والحمير. وصلوا إلى ما لم يفعله السوريون أبداً في حياتهم إلا في المحن. ما الذي عاشه هؤلاء حينها، كيف فسّروا الحصار؟ ماذا قالوا لكل البشرية؟ وهل كرروا ما قال يسوع مرة لأبيه في السموات؟ وكيف خاطبوا الأنبياء وكيف كانت صلواتهم؟ هناك ما ستكتب عنه الأساطير، فلكل فرد تجربته الخاصة، تفاصيل ألمه.
وحين يخرج أحدهم، هناك مئات الأحاديث ستسمعها ولن تنتهي أبداً، وربما من أغربها الشعور بالشبع، وهناك ابتزاز الذين وظيفتهم تشويه كل جميل وسعيد وفرح؛ وفي حالات كثيرة لا يعود الخارجون بتسوية كما جرى في حمص والمعضمية مثلاً حينما يذهبون للاستجواب القاتل. حينها يعود التفكير: لو لم نخرج، لو متنا قبل أن يختفي أو يموت، أي امتحانات هذه يا الله. وينفتح الباب لأسئلة لا يستطيع بشري الإجابة عليها.
ليست هذه القصص ممّا حلمنا به. لم نتخيّلها أصلاً، ربما قرأنا عنها هنا وهناك، وربما سمعنا عنها عمّا عاشه الفلسطينيون والعراقيون واللبنانيون والصوماليون وشعوب أخرى. لقد تجاوزت حياتنا كل ما قرأنا، وما سمعنا وما عاشه الآخرون.
حياتنا الآن بين هجرةٍ دائمة أو هجرة لاحقة وبقاءٍ أقرب للانتحار الاختياري.

المساهمون