حكايات على ضفّة أخرى

حكايات على ضفّة أخرى

15 سبتمبر 2015
لوحة للفنان الفرنسي بول غوغان (Getty)
+ الخط -
لم أقاوم إغراء تربيت ظهره ومداعبة أسفل عنقه، وكأنه سيحرّك رأسه قليلاً ويتمسّح بكفي ممتناً منتشياً. هذا القط القابع وسط ساحة غوف سكوير في قلب لندن، أعرفه، وإن لم ألتقه سابقاً، فبيننا على الأقل ثلاثة قرون. إنه "هودج"، الهر الأثير لدى الشاعر والناقد دكتور صموئيل جونسون، يقف كملك خالد فوق الإنجاز الأعظم لصاحبه، أهم قاموس للغة الإنجليزية، وبقربه محارتان فارغتان، طعامه المفضّل.
هودج، "قط في متناول اليد"، كما أراد له صانعه النحات جون بيكلي، فارتفاعه يصل إلى الكتف بحيث تلفّه بسهولة بذراعك لتكون الصورة أحلى، تداعبه من دون خشية من عضة أو خمش، تمسح فروه المعدني من دون إذنه، فيهرّ لك مجبراً بلا صوت، أو هكذا يُخيّل لك. لمسة تكسر حدّة وحدتك من دون أن تفعل ذلك حقاً. ليس هودج حياً في النهاية، لكنه موجود، ولست وحدك، كما أنك لست بصحبة أحد. إنه العيش الثمين بين عالمين، لا تقوى على انتزاع نفسك من أحدهما، ولا تفلح أبداً في صهرهما معاً في واحد. وإلّا لماذا من بين كلّ ما كتبه صموئيل جونسون وكتب عنه لا يحضرني الآن إلا ما قاله عن مزاجه السوداوي الذي إن لم يصل به في النهاية إلى الجنون الفعلي، فقد تركه على الحافة، حائلاً إلى الأبد بينه وبين الاتزان.
كان مروري مصادفة بغوف سكوير، الساحة المختبئة كجزيرة سكنية صغيرة في محيط لندني صاخب، وفيها البيت الذي عاش فيه صموئيل جونسون نحو عشرة أعوام حتى عام 1759. واحدٌ من بيوت عدّة سكنها، الوحيد الذي قاوم الزمن وصمد حتى اليوم. وبطريقة قد لا يمنطقها سواي، فتحت تلك المصادفة باب تداعيات الإقامة عند حافة جرف. باب هزيل بحيث يقوّضه ملمس قط بارد.

اقرأ أيضاً: المكتبة المحرّمة

ثمة ما استهواني دائمًا في شخصية جونسون خارج أهمية منجزه الأدبي وقاموسه الأشهر، إنها صراعاته الشرسة بين الفضيلة والتديُّن اللذين نشأ عليهما بتأثير أمه، وبين نوازعه التهتكيّة وعشقة للحانات ونساء المباغي. حرب اعترف أنه كان أحياناً يخسرها، جوعه الأزلي الذي لازمه منذ أيام الفاقة الأولى، ليصبح شراهة لا تشبع، أكسبته لاحقاً جسداً منتفخاً ضخماً. اختلافه عن السائد في عصره، كعلاقته بخادمه الأسود الذي أرسله إلى المدرسة ليتعلّم اللاتينية والإنجليزية، ومن ثم توّج هذا التعامل الخاص، بأن أوصى له بقدر كبير من تركته. حبّه للحيوانات، لا سيما القطط، وإنْ كان أكثر ما وصلنا هو حكاية تعلّقه الخاص بالقط هودج.
كان جونسون يذهب بنفسه ليشتري لهودج المحار، خشية أن "يتكرّه" خادمه من هذه المهمة ويحمل ضغينة للقط المحبوب، في حين أن السائد في القرن الثامن عشر هو أن القطط عليها اصطياد طعامها، ولا سيما الفئران. لكن هودج ليس عادياً، إنه "القط الراقي"، كما وصفه صاحبه مراراً. وبفوزه بقلب أديب كجونسون، أمّن لنفسه خلوداً وموقعاً مرموقاً في عالم الأدب بكلفة لم تتجاوز غنجه ولطافته القططية المعهودتين، وها هو جيمس بوزويل، الذي رافق جونسون وراقبه عن قرب ليكتب سيرته، ورغم أنه لا يستسيغ صحبة القطط، لا يستطيع إلّا أن يخصص مقطعاً طويلاً لهودج في كتابه الشهير "حياة جونسون"، الذي يعدّ أهم كتب السير في الأدب الإنجليزي. وبعد أن يسهب في الحديث عن تدلّه جونسون بقطه، يصل إلى مقطع عادي جدًا ولا أستطيع فعلاً تبيّن مصدر أهميته، لكنني أذكره جيداً، فلا يخلو مقال عن كتاب بوزويل أو عن جونسون شخصيًا منه، يقول بوزويل "يذكّرني هذا بالقصة الغريبة التي أخبرها للانغتون، والحالة المزرية التي أصبح عليها شاب من عائلة محترمة: سيدي. آخر مرة سمعت عنه كان يركض في شوارع المدينة يطلق الرصاص على القطط. ثم غاص في أفكاره، وتذكّر قطّه المفضّل، وقال: ولكن هودج لا يمكن أن يُطلق عليه الرصاص. لا، لا، هودج يجب ألا يُرمى بالرصاص". (وأظن هنا أن المقصود استخدام القطط كهدف حي للتدرّب على دقة الهدف، الأمر الذي لم يكن مستهجناً في تلك الحقبة في بريطانيا، وهو اليوم غير مستهجن هناك على الضفة الأخرى، من حيث أتيت، ليس القطط فقط، البشر أيضاً). لا يتوقف السرّ الباتع لهذا المقطع وبطله هودج عند هذا الحد، بعد سنوات عديدة يقدم فلاديمير نابوكوف على اختياره كاقتباس في مستهل روايته الشعرية الشهيرة "النار الشاحبة"، غير عابئ باستغراب أكاديميين ونقاد من منطلق صعوبة الربط بين الاقتباس وبين فحوى الرواية التراجيدية الشكسبيرية بامتياز، التي يقال إنه كتبها ليثبت قدرته على كتابة أدب عميق مختلف عن "لوليتا"، التي جلبت له تهمة الكتابة الإباحية.
أترك خلفي غوف سكوير وأخرج من تداعيات لقاء من طرف واحد مع كائن أدبي لطيف وإن كان قطاً، لأتابع طريقي باتجاه فليت ستريت، شارع الصحافة كما كان يُعرف، وحيث توجد أيضًا أشهر شركات المحاماة في بريطانيا. الشارع الذي كان مكتظّاً قبل ساعتين أضحى شبه خالٍ الآن. أهل الحقوق تركوا القانون لشأنه، ومضوا إلى شؤونهم، وأهل الصحافة غادروه كلهم قبل سنوات. أنشغل بمراقبة عجوزين يمرّان بقربي، هي تحمل باقة ورد، وهو أكياس التسوّق، ونظرات متواطئة بينهما، ماكرة كمراهقين متعطشين للاختلاء ببعضهما، لا بدّ أن علاقتهما حديثة. ردٌ جاهز لترتاح نفسي.
عيناي تمسحان الشارع، تتوقفان عند كلّ تفصيل. أنا مثل جيمس بوزويل المرافق المخلص للمراقبة. على أحد ما أن يروي، يسّوغ هروبه بأنه يضع نفسه جانباً ليروي، وهذه الشوارع أخلص أصدقائي. وصلت إلى شارع ستراند، ازدحم المشهد بالناس ولم أعد أستطيع مجاراة حركته السريعة. بعد قليل سأصل إلى ميدان الطرف الأغر، أو ترافلغر سكوير، من هناك يمكنني أن أستقلّ قطار الأنفاق ليوصلني إلى البيت. أصبح الازدحام سياحياً مبتذلاً، ومع هذا لا أقاوم إغراء الشارع. بهذا الخصوص لست تحدياً يعتد به. الشارع حبة سيتامول لا تحتاج كأس ماء لابتلاعها، سحبة عميقة من لفافة ماريوانا ولا يحاسب عليها القانون، بحيث أنك المأخوذ بما حولك، غائب تمامًا في مكان آخر. وصلت إلى محطة إمبانكمنت، ومرة أخرى بدل أن أسلم نفسي لأفعوان الأنفاق العملاق كطرد بشري ليتم توصيله الى البيت، أنساق لندّاهتي، أصعد الدرج المؤدي إلى الجسر، وأعبر إلى الضفة الأخرى جنوب نهر التيمز عند واترلو.
كم تبدو الضفة الأخرى مكاناً صالحاً للعيش، حتى أنك تبدد حياة كاملة على ما يخال إليك أنه جسرك الذهبي إلى ضفة أخرى! لم تعد قطارات اليورو ستار تسافر من هنا إلى القارة "فرنسا"، بدا لي القرار لائقًا، فقطار يذهب من لندن إلى باريس منطلقاً من محطة تحمل اسم واترلو، كان بمثابة حزٍ لا ينتهي على الجرح الفرنسي، هزيمة نابليون الكبرى أمام الجيش الإنجليزي في تلك القرية الصغيرة واترلو في بلجيكا.
طريق طويل مزدحم وأنت لست معي، ليس إلّا طريقاً مزدحماً بأفكاري.
الضفة الأخرى الفاتنة، ربما هي الضفة الأخرى القاتلة. لا.. لا أنا لا أفتعل شيئاً، ولا أبحث عن أية إسقاطات، كل ما في الأمر أنني لست وحدي، كما أنني لست مع أحد، أتمشّى في عاصمة بلاد ليست بلادي، لكنها منحتني جنسيتها، كريمة، وإن لم تعدني بأن تصبح أمي، ولا أنا أعرف كيف أصبح ابنتها. لست يتيمة على أية حال، ولست بارّة بأمي. أدرت ظهري ذات يوم. إنها الخيانات، مختصرات أحلامنا القديمة.
أراقب، من الخارج، أهيم في دروبها، ولا يهيّأ لي أبداً أن ألج القلب.
لست غريبة تماماً، لديّ في هذه المدينة معارفي، أعرف قطاً في متناول اليد، وأعرف صاحبه، وصديق صاحبه، لديّ شلّة من الكتّاب الموتى أنبش في خصوصياتهم كما لو كنت في جلسة قهوة مع جارات متخيّلات، أعرف شلّة من الرسامين، والفنانين والموسيقيين العابرين للزمن، لديّ عدد من المغنين الذين يعبثون بروحي عن بُعد... ولديّ من تلازمني دائماً، ولا أريد إلّا التملّص من رفقتها.

المساهمون