مهرجان أفينيون 2015.. جماليات المسرح وشواغل عالمنا المعاصر

مهرجان أفينيون 2015.. جماليات المسرح وشواغل عالمنا المعاصر

04 اغسطس 2015
+ الخط -
يعدّ مهرجان أفينيون المسرحي، واحدًا من أضخم المهرجانات في العالم، القادر على استقطاب أهمّ العروض وأكثرها إثارة للجدل والتفكير. ويبدو أن عروض هذه الدورة، متحت إلى حد كبير من نصوص مؤسسة واستندت أيضًا إلى الفلسفة، وقوّة التأويل والإسقاط في جعل "أبو الفنون" حاضرًا ومعاصرًا. هنا قراءة عنه  للناقد المصري الدكتور صبري حافظ.
لا يكف مهرجان أفينيون المسرحي السنوي الذي أتردد عليه منذ عشرين عاما عن إدهاشي دومًا بجديده، وبما يطرحه من رؤى وأفكار، وبتنامي شغف آلاف الجماهير به. وكانت أولى منابع الدهشة هذا العام هي شعار المهرجان هذه السنة في دورته التاسعة والستين: "أنا الآخر". وكأن المهرجان يردّ به، وعن وعي حقيقي، على طنطنات السياسة السطحية عقب الهجوم على أسبوعية "شارلي إيبدو"؛ وتبنى مظاهراتها الصاخبة التي شارك فيها أكثر من زعيم سياسي، بمن فيهم مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، لشعار "أنا شارلي". وأذكر أنني في المرة الأولى التي زرت فيها باريس بعد تلك المظاهرات تحدّثت مع سائق التاكسي الذي أقلّني من محطة القطار حولها، وكان بالصدفة من أصول مغاربية، فاعترض على ذلك الشعار السياسي؛ وأكّد على أنه ليس "شارلي" بأي حال من الأحوال. لذلك سعدت بهذا الردّ الضمني من المهرجان على ضيق الأفق السياسي، ورفعه هذا الشعار الأعمق والأرحب: "أنا الآخر". فدور الفن هو استشراف المستقبل، ورسم الطريق للخروج من مأزق الهوّيات القاتلة والمتصارعة، الذي يسيطر فيها التعصّب والعداء للآخر على عالمنا المعاصر؛ وتجسيد ضرورة فهم الآخر، بل التماهي معه.
إذ يطرح أوليفييه بي Olivier Py مدير المهرجان في تقديمه له، أن واقعة يناير/ كانون الثاني المأساوية، جعلت فرنسا تدرك من جديد أهمية الثقافة، ودور الفنّ في الخروج بها من مأزق السياسة. والواقع أن الفكر والفنّ في فرنسا يبرهنان دومًا على قدرتهما على التفوق على السياسة والساسة، والارتقاء بالمتلقي والمواطن معًا إلى آفاق أسمى وأرحب. ففي العام الماضي مثلا هدد أوليفييه بي بإلغاء المهرجان لو فاز مرشح "الجبهة الوطنية" العنصرية اليمينية بانتخابات عمدية مدينة أفينيون؛ لأنه لا يستطيع التعاون مع عمدة بتلك العقلية اليمينية. وكانت "الجبهة الوطنية" اليمينية قد فازت بنسبة عالية من المقاعد في الانتخابات المحلية، وأوشك مرشحها أن يفوز بعمدية مدينة أفينيون؛ إذ كان أحد الاثنين اللذين أعيدت بينهما الانتخابات، فسقط نتيجة لتهديد أوليفييه بي ذاك، لأن المدينة تدرك أهمية المهرجان لسمعتها واقتصادها وحياة مواطنيها الروحية والاجتماعية على السواء. وها هو المهرجان يفاجئني هذا العام بموقفه الأرقى في مجال العلاقة المعقّدة مع الآخر، في زمن سادت فيه تبسيطات الحرب على الإرهاب، وضرورة استئصاله، وأننا إزاء نوع من مواجهة عنف تعصّب الهوّيات الأعمى بعنف الدولة المضاد، بدلًا من تلك المواجهة الثقافية والفنية والفكرية التي يطرحها المهرجان، بل تطرحها الثقافة العقلية النقدية بشكل عام، حينما تصبح لها الكلمة العليا على السياسة.

اقرأ أيضاً: ليديا ديفيس: نحتاج إلى ترجمة الكتاب العربي

وكان المنبع الثاني للدهشة هو ثراء هذا المهرجان المستمر، وتأكيده أن الفنّ يخرج أفضل ما في الإنسان ويحوّله إلى كائن أرقى من ذلك الذي نسمع عنه يوميًا في نشرات الأخبار المؤسية، سواء أكان مبدعًا له، أو مشاهدًا متلقيًا لهذا الإبداع ومتجاوبًا معه، أو حتى مواطنًا عاديًا يعتزّ بوجود مثل هذا المهرجان الفني الضخم في ثقافته وعلى أرض وطنه، حيث تتحوّل المدينة في شهر المهرجان إلى ما دعاه أرنست همنغواي مرّة وفي مناسبة مغايرة بـ"الحفل المتنقل"؛ يعمر الفنّ شوارعها وفضاءاتها المختلفة. فإذا ما قصرنا الحديث على المهرجان الرسمي وحده، سنجد أنه يعرض هذا العام ما يقرب من خمسين عملًا، ناهيك عن مئات الأعمال الأخرى التي يحفل بها المهرجان الهامشي Avignon Off، الذي تتعاظم أهميته عامًا بعد الآخر. وسنجد أن ما يقرب من ربع هذه الأعمال الخمسين، تقدّم لنا أرقى ما يتميز في المسرح الفرنسي من عروض طوال العام. فحينما تكون هناك تنمية ثقافية حقيقية، فإن الفنّ لا يتركّز في العاصمة، كما هو الحال في بلداننا العربية، بل يزدهر في مختلف بقاع الوطن، بصورة تتيح للمواهب أن تتحقّق مهما كان موقعها. فبالإضافة إلى ثلاثة عروض جاءت من باريس، وثلاثة تمّ إعدادها خصيصا للمهرجان في أفينيون، سنجد أن هناك فرقة رقص حديث من "إكس أون بروفانس" وعرض ممثل واحد من "فالانس"، وآخر من "تولوز"، وعملا مسرحيا من "بوردو" وآخر من "فيندوم". أما باقي العروض فقد جاءت من مختلف مسارح العالم المتميزة: من وارسو، وبرلين، وموسكو، ومدريد، ولندن، وجينيف، ولشبونة، وتالين (أستونيا)، وبيونس أيرس، وداكار، والقاهرة، وبيروت، وتونس، والجزائر، وغيرها.
وأما المنبع الثالث للدهشة فهو في هذا الإقبال الواسع على المهرجان، الذي يتنامى عامًا بعد الآخر، برغم الحر وارتفاع أسعار التذاكر النسبي. فكلّ عروض المهرجان تدور أمام مسرح مليء لآخره بالمشاهدين؛ مع أن بعضها يعرض في فضاءات تتسع، كأكبر فضاءات المهرجان، وهي قاعة الشرف في القصر الباباوي، لألفي متفرج، ويستوعب أغلبها ما يقرب من الألف. وقد بيعت أغلب هذه التذاكر سلفًا، وقبل بداية المهرجان. وكلما ذهبت لعرض، فاجأتني الطوابير التي تنتظر أي تذاكر مرتجعة، أو التي لم يحضر من حجزوها لاستلامها. وقد عرفت أن بعض المنتظرين في تلك الطوابير قد جاء قبل موعد بدء العرض بأكثر من ساعتين، حتى يعزز فرصته في الحصول على تذكرة في اللحظة الأخيرة. وهي طوابير تشرح القلب، لأنها تكشف عن حرص الإنسان على مشاهدة الفنّ والاستمتاع به. فمناخ مدينة أفينيون التاريخية طوال شهر المهرجان أقرب ما يكون إلى عالم فاضل ينشد فيه الإنسان الفن والمتعة، أو إلى حلم مبتغى يتحقق في لحظة مقتطعة من الزمن. يترك فيها أغلب من جاءوا إلى المهرجان مشاغل الحياة وعبودية العمل وراءهم، ويعيشون تحت مظلة الفنّ وفي عوالمه التي ترقى بهم فوق المشاغل التي تركوها خلفهم، وإن لم تقطع صلتها أبدا بها.

جمهورية أفلاطون في الحديقة

وكان المنبع الرابع للدهشة هذا العام، هو أن أوّل عروض مهرجان هذا العام وأكثرها تكرارًا (حيث يعرض على مدى 18 يومًا، بينما متوسط عرض العمل عادة بين 7 – 9 أيام/ مرات) وهو العرض الوحيد المجاني والمفتوح لجمهور غفير من دون حجز مسبق، حيث يدور ظهرًا في حديقة عامة، هو "جمهورية أفلاطون". نعم إنه عن النص الفلسفي المؤسس في الفكر الغربي، والذي ترجم إلى أغلب لغات العالم، أي "جمهورية أفلاطون"، ولكن في ترجمة جديدة قام بها ألان باديو Alain Badiou أحد أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين. ولكنها ليست مجرد ترجمة عادية، وإنما عمل استغرق منه 11 عامًا، وحاول فيه أن يدير حواره الخاص كمفكّر معاصر مع هذا النص المؤسّس في الفلسفة الغربية. فترجمته ليست مجرد ترجمة جديدة للنص، ولكنها حوار جدلي خلّاق معه، من موقفه الفلسفي الذي يناقش فيه أهم قضايا الفكر الأفلاطوني، وما جرى لما يطرحه من القضايا التي لاتزال فاعلة في الواقع المعاصر: ألا وهي قضايا الديمقراطية والعدالة والنظام السياسي والمواطنة ووضع الفلسفة في العالم والمدينة الفاضلة/ المثلى/ المنشودة. وهي الترجمة التي نشرها عام 2012 والتي يعتبرها نصّا لمؤلفين؛ لأنها ترجمة لأفلاطون وحوار مع نصّه، وعصرنة له، وإعادة كتابة لما استوعبه منه. وقد مسرح النص اعتمادًا على البنية الحوارية لـ"جمهورية أفلاطون" ألان باديو نفسه مع ثلاثة من أساتذة المدرسة المحلية للممثلين في كان L’Ecole Regionale d’Acteurs de Cannes هم فاليري دريفيل Valerie Dreville وديدييه غالاس Didier Galas وغريغور إنغولد Gregoire Ingold، وقاموا بقراءته مع مجموعة من أساتذة المدرسة والعشرات من طلابها وطالباتها.
وعلى مدى 18 يوما تتخلق أمام جمهور يزداد اتساعًا مع أيامها، تلك القراءة الدرامية لذلك النصّ المؤسّس، بصورة يتحوّل معها فضاء الحديقة إلى ساحة للجدل الفكري والفلسفي الخلاق، وتنهض فيها محاورات أفلاطون حيّة من جديد في تفاعلها مع حوار ألان باديو الفلسفي والنقدي معها، وأمام جمهور كان يتزايد عددًا مع توالي أيام القراءة، فقد لاحظت وقد تردّدت عليها ثلاث مرات، ازدياد عدد الجمهور في كلّ مرة من الواقفين إلى العشرات ثم المئات، بالرغم من امتلاء كل المقاعد المحيطة بالمساحة التي تدور فيها القراءة منذ زيارتي الأولى. وهي قراءة تتعدّد فيها الأصوات بالمعنى الحقيقي للكلمة، لتبلغ العشرات في كلّ مرة. وقد تأسيت وانتابني الكدر وأنا أشاهد كلّ مرة تنويعات على التفاعل الحواري الخلاق بين الممثلين والجمهور والنصّ المؤسس القديم، حينما فكرت في البون الشاسع بين تعامل ألان باديو الخلاق مع تراثه الفلسفي الغربي القديم، وبين تعامل فقهائنا "فقهاء الظلام" الببغاوي الشاهد على الكسل العقلي، ولا أقول البلاهة الفكرية، مع نصوصنا القديمة، لأن تعامل ألان باديو مع "جمهورية أفلاطون" يوطئ النص القديم لمشاغل الواقع المعاصر، ويطوّر كشوفه لخدمته، كما هو الحال مع جلّ العروض التي شاهدتها في مهرجان هذا العام.
لأننا إذا ما تأملنا برنامج المهرجان، بعيدًا من الانشغال بمختلف جوانب جماليات العمل المسرحي الحركية والصوتية والبصرية، وهي من أهم معايير الاختيار في المهرجان، سنجد أنه مترع بمشاغل عالمنا المعاصر وقضاياه؛ حتى ولو بدا أنه يعود إلى كلاسيكيات المسرح العالمي. فلو توقفنا قليلًا عند المسرحيات القليلة التي استطعت مشاهدتها فيه، وهي قليلة نسبيًا هذا العام لأنني تأخرت في حجز تذاكري، أي أنني حجزتها قبل ثلاثة أسابيع من بداية المهرجان، وليس قبل أكثر من شهر ونصف شهر كما أفعل عادة. وقد استطعت مشاهدة عشرة عروض من مسرحيات المهرجان، سنجد أنها وقد عاد بعضها إلى أعمال شكسبير، شديدة الانشغال بما يدور في عالمنا، كل منها بطريقته الفريدة والخلاقة. إذ يوشك عرض أوليفييه بي لمسرحية "الملك لير" لوليام شكسبير، الذي قدّمه في أكبر فضاءات المهرجان، أي في ساحة الشرف بالقصر الباباوي، أن يكون عرضًا لسيطرة الفظاظة والخداع والنفعية وضيق الأفق واللعب باللغة على السياسة في عالمنا المعاصر، ولغياب القيم الحقيقية الصادقة منه، غياب "كورديليا" من المشهد الذي تعمّد العرض تغييبها عنه بعد المشهد الأوّل المشهور الذي قسّم فيه "لير" مملكته.
لأننا هنا بإزاء "لير" معاصر يدور أمامنا بالملابس العصرية، بما في ذلك الملابس الجلدية المثيرة، والموتوسيكلات، ورقص الباليه، وفجاجة الرأسمالية المعاصرة، والشره للطعام والشراب والبذخ والجنس بكلّ تنويعاته السادو مازوشية؛ حيث تبدو الأختان "غونريل" و"ريجغن" كعاهرتين عصريتين بعدما استولت كلّ منهما على نصف المملكة. بينما تظهر كورديليا كفراشة أثيرية في زي راقصة البالية وحركاتها الشاعرية. ومنذ المشاهد الأولى لتقسيم "لير" لمملكته، الذي جسده العرض أمامنا في صورة خريطة يتمّ تمزيقها والتنازع على أجزائها، وحينما ترفض "كورديليا" حديث النفاق الممجوج تتنازع الأختان وزوجاهما بقايا الجزء الباقي من الخريطة، الذي كان من المقرر أن يكوّن نصيب "كورديليا" منها، فلا تتركانه إلا مزقًا، بصورة تستشرف من البداية فظاظة ما سيدور. فالمسرحية تكشف لنا عن كيف يخلق معسول الكلام آليات الدمار الجهنمية، وكيف أن صمت "كورديليا" يصبح شارة نزاهتها في مواجهة العقل الذرائعي الذي يستبيح اللغة ويفرغها من معانيها. إنه الصمت الذي يكشف عقم اللغة وسقوط الجميع، الأب لير والأختان، وكيف يفضي هذا السقوط في النهاية إلى العدم، في نوع من نبوءة العرض التحذيرية.
أما إذا انتقلنا للعمل الشكسبيري الآخر الذي شاهدته في مهرجان هذا العام وهو "ريتشارد الثالث" الذي جاء به إلى المهرجان توماس أوسترمايرThomas Ostermeier، مدير مسرح الشوبوهنه Schaubühne في برلين، وهو أحد أهمّ المسارح الألمانية، فسنجد أننا بإزاء عمل آخر يؤكد عبره التأويل الإخراجي أن نصّ شكسبير شديد العصرية، برغم أن مأساة ريتشارد الثالث من بين مسرحيات شكسبير الأولى، أي مرحلة ما قبل المآسي الكبرى التي تعد "الملك لير" من أشهرها. فتأويل أوسترماير للمسرحية، وحرصه على عقد ذلك التواطؤ الضمني بين بطل المسرحية الشرير والجمهور، حيث يصعد ريتشارد دوما للخشبة من بين صفوف المشاهدين، يسعى إلى إيقاظ وعي المشاهد بمسؤوليته عما يقترفه الساسة باسمه غالبًا، في المجتمع الغربي المعاصر، من شرور. ولا يكتفي هذا التأويل بتواطؤ الجمهور وحده، وإنما يضيف إليه تواطؤ المؤسسة الدينية كذلك. فضلًا عن حرص الإخراج على اقتراف أولى جرائم ريتشارد، بقتل كليرانس، التي تتم في المسرحية خلف الستارة، أمامنا على الخشبة وبشكل تجسيدي صارخ، وإبقاء ما خلفته على الأرض من دماء شاهدًا حيًا على هذا العنف الظالم طوال العرض، تنبهنا بعض حركات الممثلين العارضة دومًا لوجوده. كما يبرز العرض كيف لا يتردد ريتشارد، ككثير من الساسة المعاصرين، في استخدام الفظاظة والجنس والكذب والتحالفات المشبوهة في تحقيق أغراضه.
وإذا كان العرضان الشكسبيريان في المهرجان يكشفان سيطرة الفظاظة والكذب على عالم السياسة في المجتمع الغربي المعاصر، فإن العرض الوحيد الذي جاء من روسيا إلى المهرجان، يؤكد هو الآخر أن روسيا الجديدة تنحدر وبسرعة إلى مباءة سُعار الاستهلاك والجنس والتحلل الذي تعاني منه المجتمعات الغربية. لأن عرض "الحمقى" Les Idiots المأخوذ عن فيلم المخرج/ المؤلف الدنماركي المعروف لأرش فون تريير Lars Von Trier والذي جاء به المخرج الروسي كيريل سيريبرينيكوف Kirill Serebrennikov مع فرقته المسرحية في "مركز غوغول" يقدّم لنا نسخة موسكوفية من عمل فون تريير الدنماركي، الذي يكشف عن مدى الحمق أو البلاهة الداخلية التي تتخفى وراء شعارات براقة وخطابات خاوية. فعبر عمل يتسم بالإيقاع السريع، ويمتد لأكثر من ساعتين، ويعتمد على تجاور الاسكتشات الدرامية وتداخلها، وتحول بعضها إلى مرايا للبعض الآخر، تقدم لنا "الحمقى" صورة مقلقة للحياة اليومية في موسكو اليوم. بصورة يبدو معها أن شكل هذا العمل المسرحي وإيقاعه جزء أساسي من محتواه. وكأن العمل يدخل بنا في غابة لا نعرف فيها أين هو الخط الفاصل بين الحمق/ البلاهة من ناحية، والتقاليد المتفق على أنها تمثل ما هو عاقل أو مقبول من ناحية أخرى، بصورة يسعى العمل فيها إلى تفكيك الدوافع الكامنة وراء الممارسات الشائعة، ويطرح أسئلته حول مكان العبث في الواقع الروسي المعاصر.

العرض الأرجنتيني

لكن أكثر العروض التي شاقتني استقصاءاتها لواقعها المعاصر، لأنها شديدة الصلة بمشاغل عالمنا العربي، كان العرض الأرجنتيني الذي جاء من بيونس أيرس. وهو عمل مسرحي يطرح إشكاليات قضية الهوية في عالم تتميز فيه بالتعقيد والسيولة معًا، ويحتفي بجماليات المسرح بصورة تجعل تلك الجماليات وجهًا أساسيًا من وجوه الجدل الذي يديره بين الماضي والحاضر. ويحمل العمل عنوانًا شيقًا يجعله أقرب عناوين المسرحيات لشعار المهرجان هذا العام. لأن العمل الذي كتبه وأخرجه ماريانو بينسوتي مع فريقه Grupo Marea من الممثلين يحمل عنوانا مثيرا للتأمل "حينما سأعود إلى البيت سأكون آخر" Quand Je Rentererrai à la Maison Je Serai un Autre، ومفتوحًا بحكم زمن الصياغة نفسه الذي يستخدم صيغة المستقبل الاحتمالية على العديد من التأويلات.
وينطلق هذا العمل من قصة واقعية وهي أن أبا مؤلفه كان ناشطًا ماركسيًا في سبعينيات القرن الماضي، ولمّا استولى العسكر على الحكم وبدأت الدكتاتورية العسكرية في مداهمة بيوت الناشطين الثوريين واليساريين، جمع كلّ الكتب والأشرطة والوثائق والمنشورات التي يمكن أن تدينه في كيس بلاستيكي كبير، ودفنها في حديقة منزل والده - والد الأب أي جد المؤلف - على أمل أن ينتهي الانقلاب العسكري بعد شهور ويستردّها. وقد كان الأب على حق، فقد دهموا البيت بعدها فعلًا، وفتشوه ولكنهم لم يعثروا فيه على أي أثر يدين الأب. وطال أمد الحكم العسكري، ونسي الأب أين دفن هذا الكيس في حديقة والده، وانقضت العقود، وتغيرت المسارات. وبعد أن مات والده قبل سنوات، وبيع البيت لحساب الورثة، تلقى الأب في العام الماضي من مالك البيت الجديد مكالمة تلفونية تقول إنهم، وهم يحفرون الحديقة لبناء حمام سباحة فيها، عثروا على الكيس البلاستيكي الضخم وما فيه من أوراق وأشرطة ووثائق؛ فذهب الأب لاستلامه، وخرجت منه عليه كل أشباح الماضي البعيد، التي تذكر الأب بأنه تغير، وبأنه تخلى عن الكثير من أفكار ماضيه وأصدقاء هذا الماضي، وكان من بينهم موسيقي بارع يكتب أغاني ومقطوعات ثورية.
لكن الابن كان أكثر أهتمامًا بما في الكيس من أبيه، فأخذ ينقّب فيه، ويجعل من عملية التنقيب في هذا الماضي الموءود موضوع مسرحيته الجديدة. وأخذ يبحث عن أسرة الموسيقي الذي كانت في الكيس تسجيلات لأغانيه، فوجد، لغرابة المفارقة، أن ابنته أصبحت مغنية مغمورة لم تصب حظًا من النجاح، فرد لها أشرطة أبيها. وحينما قررت الابنة أن تغني بعض أغاني أبيها، من دون أن تذكر أنها من زمن السبعينيات البعيد، حقّقت النجاح الذي راوغها طوال سنوات، لكنه كان نجاحًا مؤقتًا، ليس فقط لقلة عدد الأشرطة التي كانت في الكيس، ولكن أيضًا لأنها سرعان ما ملّت تكرار أنغام ماضٍ لم يعد له وجود. وهو الأمر الذي يتكرر مع المؤلف وهو يسعى لإعادة إنتاج العالم الذي وُئد في الكيس البلاستيكي، لتطرح لنا المسرحية، وقد قسّمت المسرح إلى قسمين بطول الخشبة، وحوّلت كل قسم إلى حزام متحرك، كلّ في اتجاه معاكس للآخر يتمّ عليه تمثيل المشاهد وهي تتحرك بسبب هذا الحزام في اتجاهين متعارضين، قضية استحالة إعادة إنتاج الماضي في الحاضر؛ لأن لكلّ منهما مساره المغاير، بل المعارض للآخر. هنا تجيء أهمية العنوان وصيغته المستقبلية، لأنه يطرح من خلال هذا التجسيد البصري الحركي لجدل التواريخ إشكاليات العلاقة بين الأنا والآخر الكامن في تاريخ الأنا القريب، لا البعيد.
وهو الأمر الذي يردّنا دومًا لتعاملنا العربي مع تلك التواريخ، ومدى فاعليتها في الحاضر. وقد جاء إلى مهرجان هذا العام عملان عربيان يستحقان التوقف عندهما: أولهما هو "مورسو" Meursaults، ومورسو هو بطل رواية "الغريب" الشهيرة لألبير كامو، لكن المسرحية التي تعد نصًا من نصوص مابعد الاستعمار بامتياز مأخوذة عن رواية الكاتب الجزائري كامل داوود "مورسو استقصاء مضاد" Meaursualts Contre-Enquete، والثاني هو "العشاء الأخير" للكاتب والمخرج المسرحي المصري أحمد العطار. لكن هذا موضوع يستحق العودة إليه في مقال تفصيلي آخر.

المساهمون