نهاية الحضارات

نهاية الحضارات

21 يوليو 2015
لوحة للفنان الفرنسي أندريه ديموناز André Deymonaz
+ الخط -
ستنتهي الحضارة البشرية يوماً ما بالتأكيد، ولن يكون موعد نهايتها وفقًا للتقويمات الزمنية للمنجّمين، كأصحاب حضارة المايا الذين حدّدوه في 21/12/2012، إذ إن مواعيد العلماء مختلفة: بعد حوالى خمسة مليارات عام فقط ستصطدم مجرّتنا، درب التبانة، بجارتها أندروميد، لتتشكّل إثر ذلك مجرّةٌ جديدة: ميلكوميد. أمّا الفناءُ الكلي للكون، "يوم قيامة العِلم"، إن جاز التعبير، أي "التمزّق الكوني الكبير"، فلم يحدِّده العلماء إلا مؤخراً: سيكون بعد 22 مليار عامٍ فقط، كما حسبتْهُ معادلات مقالٍ علمي جديد ومهم. وسبب هذا التمزّق: التمدّد الدائم للكون منذ تشكُّلِهِ عند ولادته يوم "الانفجار الكوني الكبير"، قبل حوالى 13.7 مليار عام. يبدو إذن أن كوننا صبيٌّ واعد، لم يصل بعد منتصف العمر. هو في سنِّ المراهقة تحديداً، ومع ذلك: مهدّدةٌ حضارتُنا البشرية بالانهيار خلال زمنٍ قريب. متى ستنتهي إذن؟
أنقلكم إلى روما، "المدينة الخالدة"، عام 410، و"قبائل الارايك الجرمانية تنهبها، وتسحب معاطفها الزرقاء الطويلة في دماء العذراوات"، كما يقول جيروم فيراري في روايته "موعظة حول سقوط روما". ومعنا القديس الجزائري أوغسطين (من مواليد تاجست، قرب قسطنطنية في الجزائر)، وهو يخطب في كاتدرائية هيبون، أو عنّابة في الجزائر حالياً، أمام جموعٍ هائلةٍ لم تستوعب كيف سقطت المدينة الخالدة في 3 أيام.
يقول للحشد الذي يبكي من هول الصعقة: "أتظنُّ أن روما لن تسقط أبداً؟ منذ متى بنى الإنسان مدناً خالدة؟ لا يبني الإنسان إلا فوق رمال. العالَم كالإنسان، يولد ويكبر ويموت".
تحكي رواية فيراري قصّة حياة شابّين من قرية نائية في جزيرة كورسيا يتركان دراستهما الفلسفية في باريس للعودة إلى قرية الطفولة، وإدارة مقهى فيها: حلم حياتهما ومشروعهما الكبير. وبعد سلسلة أحداث مترابطة ومتداخلة، يؤول مقهاهما إلى جهنم، مثلما ستؤول إليه حضارة الإنسان. بعد تمزّق المقهى، يسترسل فيراري فجأة، من دون مدخل أو تمهيد، ليختتم روايته المسكونةَ بلعنة تخريب الإنسان لعالَمٍ هو من شيّده، بمقاطع طويلة ومؤثرة جداً من موعظة القديس أوغسطين الشهيرة.
مثلما للساعة علاماتُها في الأديان، فلانهيارِ الحضارة البشرية علاماته: قلق الأدب والفنّ من اقتراب هذا الانهيار، وترجمة ذلك بعدد هائل من الأفلام والروايات الحديثة.
يُخيّم في الحقيقة هاجسُ الانهيار على الإنتاجات الفنيّة والأدبية الجديدة. ومَنْ غير الأدب والفنّ يستطيع سرد ما يدور في خوالج الإنسان من قلق ورجفات، وما يكشف اضطرابات مآلات حياته وهاوياتها المرتقبة؟
آخر قائمة الروايات الانهيارية، الروايةُ الأخيرة لصاحب رواية "فنّ الحرب الفرنسي" أليكسيس جيني: لَيلُ والنهامس.
كانت والنهامس أهمّ وأكبر مدينة صناعية في شمال فرنسا. وبعد إغلاق مناجمها وأفرانها العالية، وتهجير مصانعها، تتحوّل إلى مدينة أشباح، بائسةٍ منسيّة، تجتاحها سياسة الليبرالية الجديدة التي تزيد إفقار فقرائها، وتضاعف غنى أثريائها.
شارل صحافي يأتي إليها ليرسل مقالاته عنها إلى مركز إعلامي. يكتب كل يومياتها وتاريخها، سارداً أدقّ التفاصيل. يعبر كلّ شوارعها ومرافقها: المستشفى، المسبح، عمارة البريد، ليروي حلقات مثيرة من سلسلة انهيارات المدينة: اشتعال سطح المسبح جراء سائلٍ قابلٍ للاشتعال يحرق رؤوس السبّاحين، حريق عمارة البريد خلال يومين أمام مرأى الجميع.
"لم يطالب أحد بتعويض رسائله البريدية، وعندما انطفأ الحريق وحده، بقيت العمارة كما هي، حتّى هطول الأمطار، حيث تحوّلت وحلاً وطيناً".
"ليل والنهامس" روايةُ عالمٍ ساقط، عالمِنا الرأسمالي الذي تعطّلت بوصلته، ووصل اليوم إلى طريق خانق مسدود، كما تبرهنُ كلّ الأرقام والأحداث اليومية. لنعد إلى سؤالنا: متى ستنتهي حضارتنا البشرية إذن؟
بالنسبة للجيولوجيين: عاشت الأرض منذ 12 ألف سنة عصراً مستقراً، اسمه Holocène، بدأ باكتشاف الزراعة وانتهى اليوم بدخول كوكبنا عصراً جديداً مضطرباً اسمه: Anthropocène. وقد بدأ منذ لحظة "لخبطة" إنسان الثورة الصناعية منظومة الأرض البيئية، بسبب نشاطاته الحرارية (مواصلات، صناعة...)، واستخدامه الجشع للثروات الطبيعية والطاقة الأحفورية من دون احترام إيقاع منظومة الأرض، وتلويثه المجنون للبيئة، والزيادة الأسيّة لعدد السكان، واستهلاكهم اليومي المتضخّم المجنون.
قاد ذلك إلى تغليف جو الأرض بغطاء من غازات الاحتباس الحراري، كثاني أكسيد الكربون والميثان، التي ترفع درجة حرارة الأرض رويداً رويداً كما لو كانت محبوسة في غرفةٍ زجاجية مغلقة، ما يؤدّي إلى ذوبان الجليد في شمالِها، وإلى فيضانات وتسونامي متتالية، وإلى انقراض ثرواتها الحيوانية والنباتية.
وإذا ما استمرّ الارتفاع على هذه الوتيرة (أي حين تصير نسبة الغازات الملوِّثة في الجو 500 جزء من المليون، بدلاً من 400 حالياً)، فلن يعيش على سطح البسيطة غير بضعة ملايين من البشر، في مناطقها القطبية.
لم يعد مجهولاً لأحد اليوم أن الانهيار البيئي لكوكبنا هو موضوع الساعة الأهم والأخطر. وكلّ المؤتمرات الدولية لمعالجته، مثل COP21 في باريس في ديسمبر/كانون الأوّل القادم، طلفسات وترقيعات، لأن الحكَم هو الخصم نفسه: النظام المالي العالمي المسؤول الأكبر عن تدهور البيئة.
وما الحلول التقليدية مثل: "شراء حقوق التلويث"، الذي خرج به اجتماع كيوتو الدولي السابق حول تدهور البيئة، ويعني: دفع ضريبة على كمية التلويث، إلا تجسيد لذلك المنطق الليبرالي الاقتصادي المتغطرس الذي يقود البشرية إلى الهاوية.
إذ لا يؤدي إلى تخفيض إنتاج الغازات الحرارية المؤذية، وإنما يعمل على ترقيع التلويث لا غير، لا سيما عبر شراء الدول الغنية حقوق "كوتا" التلويث، من الدول الفقيرة قليلة التلويث، لتستمر الغنيّة في ضخّ القذارة للعالَم وقتله البطيء بطيب خاطر.
المقلق هنا: يجيد الإنسان الهروب وتلافي الكارثة أمام الخطر المباشر: حيوانٌ مفترس أو مسلّحٌ يواجهه في الشارع، لكن دماغه لم يعتد على مواجهة الخطر البطيء والانهيار الذي يقترب موعده من جيلٍ لآخر.
ينتظر هاويته حينها ويراقبها بهدوء، مكتفياً غالباً "بالدعاء بحسن الخاتمة"، مثله مثل السلحفاة التي تنط من الهلع، هاربة من القدر المملوء بالماء الساخن إذا رميت فيه، لكن عند رميها في قدر مملوء بالماء البارد، يتمّ رفع درجة حرارته ببطء حتى الدرجة القاتلة نفسها، لا تغادر القدر. تموت وهي تراقب حسن خاتمتها بهدوء أيضًا.

المساهمون