أسئلة النقد السينمائي العربي الراهن

أسئلة النقد السينمائي العربي الراهن

09 يونيو 2015
الناقد المصري سمير فريد
+ الخط -
لا يمكن الكتابة عن واقع النقد السينمائي، من دون التوقّف عند الاحتفاء ـ المتواضع عربياً ـ بذكرى مرور نصف قرن على العمل النقدي لأحد كبار المهنة هذه في العالم العربي، الناقد السينمائي المصري سمير فريد (مواليد القاهرة، 1943). لكن التوقّف المذكور لا يعني تبجيلاً أو تغاضياً عن مسار نقدي عربي تقليدي، لا يزال مستمرّاً منذ سنين مديدة، ولا يتجاهل مأزق الكتابة النقدية السينمائية العربية، ماضياً وحاضراً على حدّ سواء. فالماضي محمّلٌ بأسئلة عديدة، تُختزل بمعنى النقد وكيفية كتابته، بالإضافة إلى مدى قدرته على ابتكار نصّ نقدي متكامل يترافق والإنتاجات المتفرّقة التي شهدتها صناعة السينما في العالم العربي. والراهن مشحونٌ بطغيان صحافيّ يتوزّع على "صحافة فنية"، وعلى متابعات مختصّة بأحوال النجوم وحكاياتهم وفضائحهم والنمائم المبثوثة في عوالمهم الفنية وغير الفنية، وعلى حوارات منصبّة، بغالبيتها الساحقة، على الشأن الشخصيّ أكثر من اهتمامها بالمعاني الفنية والثقافية والجمالية والدرامية والإنسانية.
الاحتفاء بذكرى مرور نصف قرن على "تورّط" سمير فريد في الكتابة النقدية السينمائية، مدخلٌ إلى قراءة واقع النقد السينمائي العربي نفسه، ماضياً وحاضراً. ففريد منتمٍ إلى جيل عربي ناشئ في ظلّ انقلابات المصائر والمسارات المختلفة للعالم العربي، أنظمةً حاكمةً ومجتمعات محكومة بها. انقلابات تحدث في ذروة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بكلّ ما يحمله هذا التعبير من معانٍ في الثقافة والاجتماع والفكر والسياسة والاقتصاد والفنون. انقلابات مُربِكة بسبب التباساتها وطغيان التفكير الجماعي على ما عداه من مآزق فردية ينفضّ عنها كثيرون بحجّة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فإذا بالمعركة معارك كثيرة منصبّة بغالبيتها الساحقة على الداخل العربي. النقد السينمائي المواكب أحوال الصناعة ومسائلها لا يخرج على العلاقة القائمة بين النتاج السينمائي (مواضيع ومسائل)، والانقلابات نفسها المنبثقة أساساً من "نكبة" فلسطين (1948)، والمتطوّرة سلباً إثر "نكسة حرب الأيام الستة" (1967)، وما تلاها من هزائم وخراب ومتاهات قاتلة، على الرغم من "نصر" غامض وملتبس ومنقوص لـ "حرب أكتوبر" (1973).

اقرأ أيضاً: كلّ هذه العوالم... كلّ هذه السينما

مغزى استعادة هذه التفاصيل القليلة كامنٌ في أن غالبية الأفلام ـ المصرية تحديداً ـ تُناقشها وتُسرف في الاهتمام بها، على حساب الشكل والتقنيات والأسئلة الجمالية كلها، تماماً كمعظم الأفلام الأخرى، الاجتماعية والرومانسية والكوميدية، التي تعاني خللاً في صناعة الشكل. في لبنان مثلاً، تتّخذ القضية الفلسطينية حيّزاً كبيراً جداً في صناعة الأفلام، التي تعثر على حيويتها الإنتاجية بين مطلع ستينيات القرن المنصرم ومنتصف سبعينياته. في حين أن "صانعي" السينما البديلة قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975) لم ينجوا من طغيان الإيديولوجيا والصراع العربي ـ الإسرائيلي هم أيضاً، على الرغم من قدرتهم على تبديل معنى الفيلم اللبناني، وإلحاقه بمسائل العصر، ومتابعته أحوال الجماعات من خلال التنقيب بقضاياهم العامة غالباً. هذا يعني أن النقد المرافق لهذا الغليان كلّه يبقى مرايا الواقع السينمائي، ويظلّ مواكباً أساسياً لاشتغالاته المختلفة، متابعاً ومؤرشفاً ومناقشاً.
لم يتوصّل النقد السينمائي العربي يوماً إلى طرح مشاريع ثقافية للسينما (على الرغم من محاولات متواضعة لبعض النقّاد المخضرمين، أمثال المصريين علي أبو شادي وكمال رمزي، واللبنانيين إبراهيم العريس ووليد شميط، والمغربي نور الدين الصايل، والتونسي خميِّس خياطي، مثلاً، مع التنبّه إلى انصرافهم الكبير باتّجاه كتابات صحافية في معظم كتبهم)، ولا إلى تحويل النقد الصحافي إلى نص/ نصوص تُعبّر عن ثقافة نقدية، وتطرح أسئلة المقبل من الأيام على مستوى بناء مشروع متكامل للكتابة النقدية، على غرار الأدوار الفاعلة والمؤثّرة في تطوير صناعة الأفلام في فرنسا مثلاً، التي يؤدّيها منذ خمسينيات القرن المنصرم نقّاد كبار يُصدرون مجلات نقدية يُطلقون عبرها عناوين صالحة لأن تكون بمثابة بيانات تأسيسية لسينمات تجديدية، كـ "دفاتر السينما" و"بوزيتيف"، وهما نموذجان أساسيان مستمرّان لغاية اليوم في رفد المشهد السينمائي الفرنسي بنقاشات منفتحة على المحليّ والأميركي والدولي معاً، وإن بأنماط مختلفة عن السابق. في حين أن الصحافة السينمائية الأميركية معنية أكثر بأحوال الصناعة، أرقاماً وإيرادات وتفاصيل مهنية، إلى جانب كتابات نقدية تُعنى بالحكايات والقضايا بشكل عامّ.

اقرأ أيضاً: هموم الكتاب السينمائي العربي

النقّاد العرب المخضرمون لم ينتبهوا إلى ضرورة التحوّل من "متابعة نقدية صحافية" بحتة لصناعة السينما هنا وهناك، إلى وضع أسس كتابية للنقد، وإلى دفع النقد إلى ما هو أبعد من مجرّد تعليق على فيلم أو مناقشة لقضية سينمائية ـ فكرية ـ إيديولوجية، كما فعل نقّاد "دفاتر السينما" الفرنسية مثلاً، الذين يُطوّرون آراء الناقد الكبير أندره بازان (1918 ـ 1958)، وصولاً إلى تأسيسهم "الموجة الجديدة" في صناعة السينما الفرنسية. النقّاد العرب المخضرمون أنفسهم يواكبون محطات جوهرية في المسار التاريخي للسينما العربية، ويحاولون الإضاءة على هموم ثقافية وفنية وتقنية وجمالية، لكنهم لم ينتقلوا إلى الخطوة التالية على طريق تأسيس، أو المُشاركة في تأسيس تيارات سينمائية، علماً أنهم لم يُصدروا كتباً مستقلّة عن الكتابة الصحافية، إذ يكتفون بتضمينها مقالاتهم المنشورة في صحف ومجلات. وعلى الرغم من أن المقالات هذه صالحةٌ أحياناً، لكونها تعكس شيئاً من وقائع أزمنة وحالات ماضية، إلاّ أنها لم تتحرّر من آلية الكتابة الصحافية، ولم تسعَ إلى إيجاد مفردات ومصطلحات وعناوين نقدية تواكب المتداول، وتطرح أفكاراً للخروج من المتداول هذا إلى لغة تجديدية.
ويتردّد، في المشهد السينمائي العربي، أن النقّاد والصحافيين منصرفون عن مهمّات ثقافية متنوّعة، من أجل كتابات نقدية محاصرة في الصحافة اليومية أو الأسبوعية. الانهماك بالعمل اليومي يَحُول دون التفرّغ، أو شبه التفرّغ، لوضع كتب تتوزّع على أنماط مختلفة من الكتابة النقدية: الفكر الجمالي النقدي المتعلّق بالصورة. المسائل التقنية من خلال التطوّرات التكنولوجية الحاصلة منذ بداية الربع الأخير من القرن الـ 20 على الأقلّ. الارتباط الوثيق (أو الذي يُفترض به أن يكون وثيقاً) بين مهنة الناقد كمتابع ومراقب ومحلّل ومُناقش و"مؤرشف" (بطريقة أو بأخرى) ومؤرّخ وأكاديميّ، ومواجهة المسائل كلّها المتعلّقة بالصنيع البصري بحدّ ذاته، كما بمن يُنجزه، كتابة وإخراجاً وتمثيلاً واشتغالات تقنية جمالية متفرّقة.
مأزق آخر تقع فيه الكتابة النقدية العربية: غياب كتب متّصلة بالسيرة الذاتية لمن يعمل في المجالات كافة الخاصّة بالفن السابع. النقد، هنا، يُساجل ويُناقش من خلال البحث في المسار الحياتي، وفي المفاصل الأساسية التي تصنع حكاية السينمائيّ وعالمه الفني الإبداعي. في الغرب، يُصدرون كتباً متضمّنة حوارات طويلة، أو سرداً لسِيَر ذاتية وحياتية، أو سيناريوهات أفلام، إلخ. بينما العالم العربي يفتقد هذا النوع من الكتابة الصحافية ـ النقدية ومن الإصدارات، ربما لأنها محتاجة إلى وقت وميزانيات وتفرّغ، أو إلى ما يُشبه التفرّغ على الأقلّ.
إلى ذلك، وعلى الرغم من أن هذا لن يكون عمل الناقد، إلاّ أن هذا الأخير يتحمّل جزءاً من مسؤولية غياب هذا النوع من الاشتغال: المعلومات والأرشفة. في العالم العربي، هناك صعوبة في التأكّد من مصداقية الخبرية، ومن صحّة المعلومة، لأن هذا النوع من العمل المهنيّ غائبٌ بشكل كبير للغاية.
في مقابل هذا، سينمائيون عرب عديدون هم الذين يُحدثون الانقلابات السينمائية الحقيقية في اللغة والصورة والمونتاج والتصوير وإدارة الممثل، وفي تحرير "التسجيلي" من تقليديته التلفزيونية المميتة إلى رحاب الفن السابع، وفي إنقاذ الروائي من سطوة الإيديولوجيا عليه. سينمائيون عرب عديدون هم الذين يبتكرون مفاهيم أخرى للصورة، وهم الذين يصنعون أفقاً تجديدياً للفيلم، وهم الذين يقولون هواجس المستقبل واللحاق بالعصر التقني من دون تناسي أولوية المساواة بين الشكل والمضمون. أما النقّاد، المخضرمون والشباب، فغالبيتهم الساحقة تظلّ محاصرة بـ "كتابة نقدية صحافية"، وإن يتميّز أفرادٌ شباب عديدون بينهم بحيويتهم الثقافية ووعيهم المعرفي، فيحاولون جعل المقالة أداة تفكيكية تناقش وتُساجل وتواجه، ولا تكتفي بسرد قصّة الفيلم، أو نشر أخبار صانعيه. يحاولون أيضاً تضمين حواراتهم مع مخرجين وممثلين وتقنيين سجالات معرفية لا تبقى أسيرة المضمون فقط، بل تطرح أسئلة الجماليات السينمائية كلّها في نقاشاتهم الدائمة.
فهل يتوصّل هؤلاء النقاد الشباب إلى جعل الكتابة النقدية ركيزة مشروع نقدي عربي أو أكثر، في مواكبة التجديد الرائع الذي يحصل يومياً في صناعة الأفلام السينمائية العربية؟
(كاتب لبناني)

المساهمون