جدلية الأحجار والأفكار

جدلية الأحجار والأفكار

05 مايو 2015
+ الخط -
بشَّرت الماركسيَّة في دعوتها الثقافيَّة الكبرى، بالمزج بين العمل الذهنيّ المجرَّد، والعمل اليدويّ المباشر، شدُّ الـ "فوق" نحو الـ "تحت"، وتطعيم النظريَّة بالنظرة، واحترام البصيرة للبصر، ليصبح للثقافة وقتها، فاعليَّة تغييريَّة واقعيَّة حقيقيَّة. ليأتي بعدها أنطونيو غرامشي وليصطلحَ في "كرّاسات السجن"، تعبير "المثقف العضوي"، أي المثقف الواقعي، الذي لا يترّفع ويستعلي ثقافيَّاً، عن اللحظة السياسيَّة اليوميَّة، ويندمج بها بعمق علائقيّ شبكيّ.
وعندما أسس المهندس المعماري، والتر جروبيوس، مدرسة "الباوهاوس BAU HAUS" الفنيٍّة (المصطلح مركّب: BAU تعني بالألمانيَّة بناء، وHAUS تعني بيت) عام 1919، بعد الحرب العالميَّة الثانية في مدينة فايمر الألمانيَّة (انتقلت المدرسة لاحقاً عام 1926 بأمر قائد الحزب العمالي القومي الاشتراكي النازي، أدولف هتلر، إلى مدينة ديساو)، دعا بيوس فيها للمزج بين الفنون الجميلة الذهنيَّة العليا، والفنون والعلوم التطبيقية المباشرة والواقعيَّة. ومنه نستطيع أن نصطلح تعبيراً فنيَّاً دقيقاً، يكافئ الاصطلاح الغرامشي الشهير، وهو التبشير بـ"الفنّان العضوي"، أي الذي يكسر الفجوة التاريخيَّة، بين الجمال المتخيَّل والجمال الواقعي. مدرسة "الباوهاوس" هي في العمق مَرْكسَة الفن، أي جعله متاحاً للجميع، وإدخاله للحياة اليوميَّة التاريخيَّة الماديَّة. حيث إن الطالب في "الباهوس" يتعلم إلى جانب الفنون الجميلة (العمل الذهني)، لمدّة ستّة أشهر، الحرف اليدويّة المباشرة، وأعمال المعادن، والتصوير الحائطي، والدهانات بأنواعها (العمل اليدوي). وتعلّم شروط التقنية التطبيقية اليدويّة المباشرة، يضبِط سراح الخيال. فشرط انضمام أي طالب إلى المدرسة، هو "نسيان كلّ شيء تعلّمه قبل المدرسة".
تركّز المدرسة بشكل أساس على الأبعاد العقلانيَّة في الهندسة المعماريَّة، وقد خطَّطت لكلّ المعمار المدني في المدن الصناعيَّة الكبرى. لذا تعدّ الأساس المعماري الفنّي لـ"العقلانية الصناعية"، التي بنت أوروبا آنذاك. حيث إن نظرةً سريعةً للشواهد العمرانية الحيَّة، أو الراحلة لآثار المدرسة، تبيّن سيطرة الطابع التكعيبي والتكراري والتسلسلي، فالبناء مكوّن من مكعّبات لها الحجم نفسه، في اتجاه عمودي وأفقي، إلى جانب التماثل والتكرار والتشابه، الأدنى إلى تشابه العناصر البشريَّة في الجيوش العسكرية المنضبطة. وهذا في العمق يدّل على النزوع العقلاني الأقصى في المدرسة، حيث الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة، تُفْشي تَفَشّي اليقين الديكاري (أي الترتيب والتقسيم والتنميط). أمَّا التماثل والتكرار والتشابه بين المكعبّات والأبنية، فتؤكد الفكرة الماركسية الأزلية والأساسيّة؛ العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد وتقليص الفوارق الطبقيَّة، التقسيم العادل للفراغ، نحت الحجر لهَنْدسة البشر. ومن أشهر التمثّلات العمرانيّة الأخيرة لمدرسة "الباوهاوس"، برجا التجارة الأميركيّان، "شهيدا" الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول.
وعندما أدّى التجلّي السياسي الشيوعي للأفكار الماركسيّة كما في حالة ستالين، أو التمثّل السياسي القومي للأفكار الماركسية كما في حالة هتلر، إلى كوارث بشرية وإنسانية تجلّت في حروب وإبادات وتدمير، تعرّضت مدرسة "الباهوس" ذات النزوع الماركسي أيضاً، إلى نقد حاد وتشكيك كبير، كونها تمثّل فن العقلانية الصناعية الأوروبية. وعمل جاك دريدا في تعاونه مع المهندس الأميركي اليهودي Peter Eisenman في إصدار مؤلّفات مشتركة، تنقد مدرسة الباوهاوس، وتسخر من فلسفة التشييد والمجد والانتصار والشموخ والامتلاء، فالخطوط المستقيمة والزوايا القائمة والتجانس والتماثل، هي تعبير على اليقين الديكارتي الرياضي المتطرّف والفلسفة الأرسطية التي تدّعي الاكتمال والنقاء وتطلب مطلق السيطرة. وهذا هو المسؤول الأوّل عن إنتاج العنف والحروب العالمية، برأي مفكّري ما بعد الحداثة التفكيكيين.
دعت هندسة ما بعد الحداثة، أي المعمار التفكيكيّ، إلى إلغاء الخطوط المستقيمة ومحاربة التجانس والتماثل، وذلك بالتقليل من الزوايا القائمة والخطوط المتوازية والمستقيمة، وبرسم الأشكال المنكسرة وغير المكتملة، الانحناء بدل الاستقامة، والانفصال عوض الاتصال، وإشاعة التصاميم المتقطعة التي تبدو غير منجزة، وهذا تماماً يتناسب مع الجملة النظرية التفكيكية ما بعد الحداثيَّة، من تشكيك عميق بكلّ الوجود، إلى انعدامٍ حاد لليقين، إلى سخرية من التماسك والمنجز والمتراص.
وللمصادفة الكبرى، فإنَّ معماريي التفكيك، قد تولوا بناء المتاحف التذكاريَّة للإبادات التي حصلت في فترة سيطرة العقلانية الصناعية، واتسم الطابع المعماري الغالب في تلك المتاحف، بملمح تأثيمي فيه شعور حاد بالذنب، ولعلّ هذا ما يفسّر ولاء قسم لا بأس به من معماريي التكفيك، لليمين اليهودي المتطرف (وهذا الكلام ليس إطلاقيّاً)، هم الذين بنوا غالبية المتاحف اليهودية التي تتحدّث عن الهولوكست مثلاً. ومنهم مثلاً: المهندس الأميركي من أصل يهودي بولوني، دانيال ليبسكيند، (Daniel Libeskind)، والمهندس الأميركي من أصل يهودي بولوني كذلك فرانك جيري (Frank Gehry).
يسمّي جاك دريدا مسحة الشجن التأثيمية هذه في المعمار التفكيكي بـ "العزاء الأصلي".
تولى هؤلاء المعماريون، ومن بينهم المعماري ليبسكيند، بناء برج التجارة العالمي الجديد؛ ولأنّهم يحمّلون البرج السابق، المبني على طراز مدرسة الباوهوس، مسؤوليّة وقوعه، كما لو أنه كان ضحيَّة نفسه، باعتبار أن الفكرة دوماً تنتقم ممّن يمثّلها، فقد اختاروا هذه المرّة، بناء جديداً يقاطع تماماً النمط المعماري السابق، حيث الخطوط المنكسرة الفوضويَّة والفراغات الكثيرة المتخلّلة، إذن إن للفراغ قيمة فكرية عالية لدى معماريي التفكيك، فهو يرمز للغياب والفقد والتخلي.
إذا كان معمار التفكيك في أوروبا ما بعد الحروب، قد اتّسم بطابع التأثيم والعزاء، فقد بدت مدينة بيروت ما بعد الحرب الأهلية مفتقرة إلى وجود مسحة معمارية خاصَّة، بسبب تعدد الروايات التاريخية، إذ لكل جماعة أهليّة سياسيّة، تاريخها الخاص وعالمها الرمزي والمعنوي الذي يتعارض مع العوالم الرمزية للجماعات غيرها، وهو ما يقود المدينة نحو اللاخصوصية التاريخية.
(كاتب سوري)

المساهمون