غزّة التي لا تهدأ

غزّة التي لا تهدأ

26 مايو 2015
الممثلة الفلسطينية هيام عبّاس في مشهد من الفيلم
+ الخط -
قسوة مستمرّة لا تنتهي ولا تخفّ وتيرتها، هي الصفة اللصيقة بغزّة كما يعرفها العالم، غزّة يكفي اسمها ليحضر الاحتلال الإسرائيلي الذي كلّما مرّ عامان أو ثلاثة دكّها بصواريخه وجرّف أرضها وبيوتها، ويكفي اسمها أيضًا ليخطر في البال السجن الكبير لأهلها.
على أن هذا الواقع الذي لا مجال فيه لبرهة أمل على ما يبدو، يدفع الغزاويين إلى شيء غير متوقع، شيء سريالي، شيء ضدّ الصورة "النمطية" للمدينة وأهلها. غير المتوقع هذا، ليس إلا فيلم "متدرّج" "dégradé" للأخوين الغزاوييْن التوأم طرزان وعرب ناصر (اسماهما الحقيقيان محمّد وأحمد أبو ناصر)، الذي عُرض ضمن أسبوع النقّاد في مهرجان كان السينمائي. وهو أوّل فيلم روائي طويل لهما.
يروي الفيلم الواقع الغزّاوي بطريقة غير مألوفة، وصادمة، فيها صدقية نقل الحياة اليومية في غزّة مع ابتعاد مباشر ومقصود عن الاحتلال الإسرائيلي. أهذا ممكن؟ وكيف للمرء أن يتخيّل غزّة من دون الاحتلال الإسرائيلي؟
الفيلم مباشر ومغاير، فعنوانه المشير إلى قصّة شعر، يحيل إلى مكان التصوير الوحيد طوال الفيلم : صالون حلاقة نسائي في غزّة. تدير شؤونه امرأة روسية تدعى كريستينا، جاءت إلى غزّة وعاشت فيها بعد قصّة حب جمعتها في موسكو مع زميل الدراسة الفلسطيني، فتزوجته. وضعها هذا، يدفع زبونات الصالون إلى سؤالها باستمرار: "ما الذي يجبرك على البقاء هنا، وتحمّل أوضاع كهذه؟".
عشر نساء من طبقات اجتماعية مختلفة وأعمار متفاوتة، إضافة إلى كريستينا وطفلتها ومساعدتها الشابّة منال، جميعهن حبيسات فضاء الصالون الضيّق والمغلق الذي بالكاد يتسع لهنّ، يعكسن جوانب "غير معروفة" من الحياة في غزّة، والأوضاع المعيشية فيها من دون إغفال تلك السياسية، مع التركيز على العلاقات الإنسانية والزوجية.
تجد النساء أنفسهن حبيسات الصالون إلى ساعة متأخرة من الليل، بسبب "أسد" سرقته عائلة أدنى إلى المافيا، من حديقة الحيوانات في غزّة ورفضت إعادته متحدّية بذلك سلطة حركة حماس المسيطرة على المدينة.
العنف هو السمة الأبرز في الفيلم، عنف لفظي وجسدي، داخل الصالون وخارجه. وكلّما اشتدت عزلة النسوة في الداخل، تصاعدت وتيرة العنف اللفظي بينهن إلى أن بلغ التوتر أشدّه فاشتبكت اثنتان منهن بالأيدي.
هي عزلة غزّة التي يتناحر أفرادها لأسباب شتى من بينها الفقر والاختناق. لا مجال لأي لطف أو تسامح في العلاقات، لا شيء خلا الضيق والتوتر. كل الحوارات تنتهي بالشتيمة والسباب. هكذا ينتهي الحوار بين وداد وحبيبها، وهو أحد أفراد العائلة المسلحة التي سرقت الأسد (ويؤدّي دوره طرزان أحد المخرجيْن)، أو بين زينب المتدينة وصديقتها صفية المدمنة على أحد أنواع الأدوية، تلجأ إليه لتنسى خيبة تردّي علاقتها الزوجية، أو بين سلمى العروس الشابة التي تتحضر لليلة زفافها وحماتها الرافضة للزواج أصلًا، فتتعامل معها ومع أمّها بتعالٍ واضح. الشتيمة والسباب حاضران أيضًا بين انتصار المرأة الخمسينية المطلقة (تؤدّي دورها الممثلة هيام عبّاس) وباقي الزبونات. تستحقّ حكاية انتصار أن تروى، فهي امرأة ترفض واقع تقدّمها في السنّ (وقد سبق لهيام عبّاس أن أدّت دورًا مماثلًا في فيلم "المرّ والرمان" للمخرجة الفلسطينية نجوى نجار)
وتريد أن تعيش كما لو أنها ما زالت شابّة في مقتبل العمر، فتتبرّج وترنو لمواعيد غرامية، وتزيد من جرعة الجرأة التي ستجعلها في شبه قطيعة مع سائر النساء في الفيلم، حيث يستنكرن "تشبّثها" بالحياة على هذا النحو. سلوكها "المستهجن" هذا، يدفع حتّى الشابّات إلى النظر إليها بقليل من الاحترام، ما يدفعها إلى زيادة جرعة الاستفزاز، إن في كلامها أو في تصرفاتها. بيد أنها تحتمي من رفضهنّ لها بغطرسة وتكبّر واهيين. وسرعان ما تنكفئ على نفسها، حين تواجهها إحداهنّ بعنفٍ أشدّ.
تأنّى المخرجان ناصر، طويلًا عند شخصية انتصار، كما لو أنهما أرادا من خلالها كسر الصورة النمطية المألوفة عن المرأة الفلسطينية عامّة؛ المرأة المكافحة، المناضلة، الثكلى، الأرملة، أي تلك الصورة التي تشفّ عن الاحتلال الإسرائيلي، وترتبط بالمعاناة الفلسطينية بصورة مباشرة. تلك الصورة النمطية التي لا مجال معها لإبراز أي جانب أنثوي للفلسطينيات. وكانت رسالة الفيلم من خلال شخصية انتصار غير مواربة على الإطلاق؛ نعم ثمّة في غزة نساء يردن عيش أنوثتهن إلى آخر رمق، ثمة نساء يكسرن التقاليد، ولهن علاقات خارج إطار الزواج.
من الصحيح أن الحضور الأنثوي طاغٍ في الفيلم، فالنساء الثلاث عشرة هن البطلات وحدهن، وخلا أعضاء العائلة المسلحة، فإن الرجال لا يحضرون إلا من خلال حديث النساء عنهن. إذ لا يميل الأخوان ناصر إلى تقديم الرجال بصورة إيجابية، وهم فقط "الأزواج"؛ تارة موجودون في حوارات النساء، وتارة أخرى هم المخاطبون في الهواتف المحمولة. وفي الحالتين، تظهر شخصياتهم كما لو أنها انعكاس للقهر، وقلة الحيلة وانسداد الآفاق. هم مغلوبون على أمرهم، سلبيون إلى أقصى حدّ، وفي قطيعة عاطفية مع زوجاتهم. كلّ واحد منهم يهرب من واقعه المرير على طريقته؛ منهم الذي يعتكف في المقهى، وينفق كلّ ماله في تدخين السجائر. ومنهم الذي يمضي نهاره كله بساعاته الأربع والعشرين في المسجد، ما دفع زوجته إلى طلب الطلاق، ومنهم الذي حبس نفسه في البيت، إذ لا عمل لديه ولا مشاغل، بل إن الشاب أحمد الذي تحبّه منال (مساعدة كريستينا)، يبدو شخصًا انفعاليًا وعنيفًا إلى أقصى حدّ. وهذا ما أظهر نساء الصالون حاملات لمسؤولية الأسرة، فبدون أكثر اتزانًا وحنكةً وحكمةً من الرجال رغم مشاكلهنّ ومعاناتهن، وما تقسيم الحقائب الوزارية الذي قامت به صفية على الحاضرات في الصالون، في لحظة يأس من الأوضاع السياسية، إلا امتنان ضمني لقدرات المرأة على تحمّل العبء.
بيد أن نساء الصالون وإن كنّ حبيسات فيه، غير معزولات عن العالم الخارجي، فالسياسة حاضرة في فيلم "متدرّج" بطريقة مخصوصة. إذ إن الاحتلال الإسرائيلي لا يظهر إلا في الظلّ من خلال صوت طائرات الدرونز (طائرات بلا طيار) التي لا تتوقّف عن التحليق في سماء غزّة. ومن جهة أخرى، يركّز الأخوان ناصر على النتائج السلبية لأمرين "فلسطينيين": أولًا الاقتتال الداخلي بين الفلسطينيين وطريقة إدارة حركة حماس للحياة اليومية في غزة. كلّ هذا انعكس سلبًا على الناس، وتردّي الأوضاع المعيشية، فضلًا عن المعوقات الكثيرة التي تحول دون الحياة الكريمة للسكّان، وتمنع حتّى تنقلهم من أجل العلاج والتداوي.
حين عُرض الفيلم في المهرجان، صرح طرزان عرب عند تقديمه، بأنه تعرّض هو وأخوه إلى ضغوط من جهات لم يذكرها، كي يغيرا طريقة معالجة الفيلم لواقع غزّة، خصوصًا أن تصوير الفيلم تزامن مع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، في صيف عام 2014، التي سمتها إسرائيل "الجرف الصامد"، وكان الضغط ربّما يتعلّق بضرورة إظهار مسؤولية إسرائيل وعدوانها على القطاع ومحاصرتها له. بيد أن الأخوين طرزان وعرب ناصر، تمّسكا برؤيتهما للفيلم، وفضّلا تقديم طرح مختلف عن المدينة التي ولدا وعاشا فيها جلّ عمرهما. ففي ظنّهما أن موضوع الفيلم الرئيس هو "الحياة، هي الموضوع الذي أردنا التطرّق إليه" هذا ما قاله المخرج عرب ناصر، وأضاف أيضًا "في العالم الخارجي، يظنّ الناس أننا كلنا إرهابيون، وأننا نمضي وقتنا في صنع القنابل والمتفجرات، وأننا نستحق المحو عن الخارطة".
صحيح أن الأفلام السينمائية غالبًا ما تركّز على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن وسائل الإعلام الغربية تصورهم عمومًا كإرهابيين، لذا اهتمّ الأخوان ناصر بإبراز وجه مخفي غير مألوف عن غزّة.
على مستوى الإخراج نجح الأخوان ناصر في توظيف المكان الضيّق، وجعل المشاهد جزءًا منه، حتى أننا نشعر، كما الشخصيات بالاختناق كلّما انقطعت الكهرباء، معضلة القطاع الأولى. ونعيش تشنّج اللحظات مع تصاعد وتيرة العنف داخل الصالون وخارجه. قذيفة تلو أخرى تتبادلها شرطة حماس مع العائلة المسلحة، تهتزّ معها الكاميرا، ونشعر أننا في قلب صالون الحلاقة تحت القصف. ولئن أحالنا الفيلم في البداية إلى حدّ ما، على الأقل على مستوى الديكور والألوان وأجواء صالون الحلاقة النسائي، إلى الفيلم اللبناني "سكر بنات" لنادين لبكي، إلا أن الأحداث اللاحقة وطريقة السرد جعلته مختلفًا ومغايرًا تماماً.
فالعروس لا تتم زينتها، ولا تفرح، بل يسيل تبرّجها على وجهها، ولا تتم تسريحة شعرها. تجلس مرتدية ثوبها الزفافي الأبيض، متسمرّة على الكرسي بسبب صوت القذائف خارج الصالون، ما يعني استحالة وصول والد عريسها لأخذها إلى حفل الزفاف. أمّا المرأة الحامل فاطمة، فيتوتّر جنينها، وتبدأ أوجاعها التي تشتدّ كلّما تتزايد طلقات الرصاص، حد أنها تبدو في مخاضها الطويل هذا كما لو أنها على وشك الموت. لكأنّها صورة عن غزّة التي لا تفرح ولا ينتهي مخاضها.
لاقى الفيلم إعجابًا كبيرًا من الصحافة الفرنسية لا من النقّاد، إلا أن ردود الفعل العربية تراوحت بين من أثنى على العمل ومن عدّه "غريبًا" عن العوالم الفلسطينية ودون المتوقع.
(كاتبة مغربية)

المساهمون