راشد دياب وفتنة المجهول

راشد دياب وفتنة المجهول

29 ديسمبر 2015
من أعمال راشد دياب(فيسبوك)
+ الخط -
السودان مجهول الثقافة العربية. كان هذا شعوري دوماً. وإنْ كنت أحس نفسي قريباً من السودان، لسبب بسيط هو أن بلاد السودان في التاريخ المغربي، الحافل بالعلاقات الوطيدة التجارية وغيرها مع إفريقيا جنوب الصحراء، كان هو السنغال ومالي وغيرها من بلدان غرب إفريقيا. هذا اللَّبس الجغرافي هو ما جعل السودان دوماً قريباً إلى نفسي وجسدي وثقافتي، وكأنه جزء مني، خاصة وأن اللون لم يكن أمراً فارقاً بل كان جامعاً، فالتدرج في لون البشرة بالمغرب يتجه من البياض وزرقة العيون شمالاً إلى السمرة الإفريقية جنوباً.
السودان الحقيقي، الذي أدركت أنه موجود جنوب مصر، بدا لي في لحظة معينة كم لو كان يَسرق من ذاكرتي الطفولية السودانَ الذي كان يسكن مخيلة صباي، كي يستقر في موقع بعيد عن جسدي. غير أن منطق الجغرافيا أقوى من منطق التاريخ، بل من منطق ذاكرتي. هكذا أذعنت للاستكشاف، فصرت منذ يفاعتي قارئاً جيداً للأدب السوداني بالأخص للطيب صالح، الذي طالما التقيته في ما بعد في مهرجان أصيلة، حيث كان ضيفه من موسم لآخر حتى وفاته، وللفيتوري... أما الفنون التشكيلية فحتى لقائي براشد دياب مما ينوف عن الخمس عشرة سنة، لم أكن أعرف فناناً له صيت في هذا البلد غير عمر خليل.
كان اللقاء بالشارقة، في احتفاء عربي بمئوية الفن العربي. حينها اكتشفت فناناً ذكرني في هيئته بالطيب صالح، من غير أن يمت له بصلة أخرى. والحقيقة أنه هو أيضاً كان يرتاد موسم أصيلة منذ أواسط الثمانينيات، من غير أن تقودني الظروف للقاء به. بالمقابل تعرفت على مواطنه عمر خليل وأعجبت بأعماله وكتبت عنه. والحقيقة أن هذا الأخير كان من مؤسسي محترف الحفر في أصيلة سنة 1978، وأحد الحفريين الأكثر شهرة في العالم العربي.
بيد أن راشد دياب أيضاً من الحفريين الكبار. وحين التقيته كانت مناسبة ليحدثني عن أحد أهم الفنانين الحفريين العرب، من معارفه، المغربي الذي اشتغل مع كبار الفنانين الإسبان كميّاريس
وميرو وغيرهما... هو الذي مات غمّاً وكمداً وكآبة في شقته بوسط مدريد في بداية التسعينيات. كان راشد دياب حينها يتابع دراساته العليا بمدريد ويهيئ الدكتوراه، ليغدو بذلك مدرّساً بالجامعة الإسبانية. وفي هذا الفضاء الفني المتعدد، تمّت التلاقحات التي جمعت العديد من الفنانين العرب، فكانت علاقة راشد دياب بالفنانين الأردنين من خلال النحات سامر الطباع، وهي العلاقة التي استمرت بحيث صار فنانُنا منتمياً للأردن قلباً وقالباً.
بالرغم من أن أغلب منتَجات ومعارض راشد دياب في العقديْن الأخيريْن قد كرسهما لإدارة مركزه في الخرطوم وللإبداع التشكيلي، فإن تكوينه الأولي كان عميقاً وهاماً في مجال الـ"سّْطامبا" (كما يقال عادة) أي في الفنون الغرافيّة. والحقيقة أن أعماله الحفرية تشكل عالماً خاصاً استطاع من خلاله أن يبلور الملامح الكبرى لتجربته التشكيلية العامة. فهي تقوم على تعددية وتراكبات تجعلها تمزج بين التشخيص والترميز العلامي والشكيلي. وكأن الفنان يسائل فيها المرئي من خلال الرموز والخطوط والمجرَّد، عبرالكائنات التي تجسد منظوره الخاص كالجسد الأنثوي والفرس والطائر (النسر) وغيرها.
يزاوج راشد دياب في عمله بين الحركية والتصوير، وكأنه بذلك يستعيد كل العناصر التي ارتسمت في ذاكرته في فضاء تتجاور فيه الصحراء بمروج النيل. وربما كان ذلك في أصل تلك العلاقة المركبة التي نلحظها لديه بين الألوان الباردة والساخنة، وبين الظل والنور، كما بين خفة اللون وثقل المادة. هذه المفارقات التي تشكل عالمه هي نفسها بالتأكيد التي تشكّل متخيَّله الشخصي. فاللون ليس سوى تجلٍّ للذاكرة البصرية منها والذهنية. ولذلك حين تركز أغلب الكتابات على ميسمه التلْويني، فكأنها تقودنا إلى ضرب من المحلية التي تفسر كل شيء: الفنان سوداني الأصل ولذلك فهو يحمل أنوار بلده في مخيلته ليترجمها في أعماله. يبدو لي هذا الأمر ضرباً من تحصيل الحاصل، وهو إن كان يفسر لنا سمة غالبة على الفنان فهو يختزل عمله كله في ذلك.
والحال أنّ التلوينية ليست سوى ملمح من حركية الفنان وديناميته الفنية. وهي تمنح لأعماله الحفرية جاذبية تقربها من التشكيل الصباغي. ففي سلسلة أناس People التي أبدعها في الثمانينيات والتسعينيات، نجد ذلك الثراء التشكيلي الذي سوف يظل لصيقاً بمخيلة الفنان. إنها عبارة عن تواشجات بشرية مدثرة بتلاوين متنافرة وتبدو كما لو أنها خارجة من صلب الزمن. وهذه التركيبات التي تبدو مراوحة بين التشخيص والتجريد هي التي سوف تطورها الأعمال التشكيلية على امتداد العقدين الأخيرين، بعد أن جرب الفنان الحروفية والعلامية فانزاح عنهما بحثاً عن عوالم أكثر غوراً في تربة الوجود.
يترصد راشد دياب الكائنات في شبحيتها الآسرة، يزج بها في مربعات تتحول إلى نوافذ تؤطر الحياة وتركبها وفي الآن نفسه تمنحها نوافذ تطل منها على الغياب. كائنات دياب أشبه بالتراكيب التشكيلية المتحولة، توحي أكثر مما تعيِّن، وتشير أكثر مما تشخِّص. من خلالها يطل الفنان، ونطل نحن معه، على الحركية الآسرة للتعالقات الإنسانية. كانت البداية في الثمانينات تستكنه حركية الثنائيات (تقارب، حب، شهوة؟) ثم صارت في ما بعد تلامس التداخلات والتفاعلات، وحلول الذات في الآخر.
هذا التحول ينبئ عن ثوابت ومتغيرات في التجربة التشكيلية التي يصوغها راشد دياب بشكل حثيث، بعيداً عن قلاقل ما بعد الحداثة وعن التجريبية التي تسكنها. وكأننا بهذا الفنان الحكيم يتسامى برؤيته تدريجياً، من مقام لآخر، مسترسلاً في رحلته الطويلة الأمد في صحراء الوجود، باحثاً عن ظلال الزمن ورياح المعنى ورمال الجسد. فبعد أن كانت الكائنات مركّبة، صارت هلامية أكثر فأكثر، وبعد أن كانت تحتل مساحة كبرى في اللوحة، صارت تبدو وكأنها تضيع في غمرة الأفق. كما أن الخلفية صارت أكثر دكانة وتعبيريتها أشد حدة... مما ينبئ عن انزلاقات في الرؤية وانزياحات في المنظور يترجمها الفنان بضبابية تلوينية تصير فيها المساحات أكبر من الكائنات والفراغ أكبر من المعنى والغياب أشد من الحضور... إنها توجهات جديدة تبدو لنا ذات طابع صوفي، بل نابعة من تصور أكثر حكمة للوجود، يرمي بالفنان في تخوم المرايا، وعلى أطراف لعبة هو سيّدها الوحيد...

إقرأ أيضا: راشد دياب: تلويحة الجنوبيات

دلالات

المساهمون