بوجمعة لخضر، عوالم تستكْنه المجهول

بوجمعة لخضر، عوالم تستكْنه المجهول

30 نوفمبر 2015
بوجمعة لخضر، مواد مختلفة على القماش، 1978
+ الخط -
لم يكن يعرفه أحد تقريبًا إلا باعتباره أحد الإثنوغرافيين المهووسين بدراسة الفنون الشعبية، وباعتباره المدير المميَّز للمتحف الإثنوغرافي في مدينة الصويرة. بوجمعة لَخْضر صار اسمه لصيقًا بهذه المدينة ذات المعمار البرتغالي، التي عرفت في أواخر الستينيات والسبعينيات كمحطة للحركة الهيبّية. إذ زارها نجما الروك؛ جيمي هندريكس وكات ستيفنس.
في ما بعد ستصبح المدينة معروفة بكونها مدينة الموسيقى الكناوية ذات الأصول الأفريقية الجنوبية، وبموسمها السنوي الذي تتمازج فيه موسيقى الجاز والبلوز وغيرها، بالإيقاعات الكناوية المادحة للأولياء والأنبياء والمحاورة للجن والعفاريت.

في هذا السياق، اشتغل بوجمعة لخضر على المتخيّل الشعبي والممارسات العقدية والسحرية والتمثّلات المتصلة بالجن والكائنات الخيالية. وفي هذا السياق أيضًا كان يمارس التشكيل بصمت، ولا يعرف ذلك إلا بعض المقرّبين منه، بحيث يمكن القول إن هذا الفنان كان مجهول الفن المغربي.

اقرأ أيضًا: إيتيل عدنان، عنفوان امرأة تعانق رحابة الإبداع

ولم يتح لنا التعرّف إليه إلا بمناسبتين: اختياره للمشاركة في معرض عالمي بباريس سنة 1989 ووفاته في السنة نفسها. في تلك السنة الفاصلة في التاريخ العالمي؛ سقوط حائط برلين، قام "جان هوبير مارتان"، القيّم المعروف ومدير مركز جورج بومبيدو في باريس، بزيارة إلى المغرب بحثًا عن فنان يمكنه المشاركة في إحدى التظاهرات العالمية المشهورة: "سحرة الأرض"، التي جاءت لعرض الفنانين الأكثر أصالة وفرادة في أفريقيا وآسيا وأميركا وأوروبا. ولحسن حظ بوجمعة لخضر، أن الاختيار وقع عليه، في وقت كان كثيرون يتكهنون بأن يحظى الفنان المبدع المعروف فريد بلكاهية بذلك.

كان بوجمعة لخضر، بسيطًا وشبيهًا إلى حد كبير بفنان آخر من مواليد الصويرة مثله، هو الحسين الميلودي. الفرق بينهما أن الأوّل فنان صموت منطوٍ على نفسه، ومن المتخرجين الأوائل من مدرسة الدار البيضاء للفنون الجميلة الشهيرة، التي كان يديرها بلكاهية، فيما الثاني فنان عصامي، جاء إلى الفن محمولًا على جناحين من ريش النعام.

اقرأ أيضًا: كائنات عباس الصلادي العجيبة

باحثًا كان وباحثًا ظلّ وباحثًا عانق الحياة وغادرها مبكرًا. فهذا الفنان المفعم بالحيوية، ونظرًا إلى طبيعة تكوينه الأكاديمي، والعلاقة مع نزوعه الفني الذي يخترق الحدود والآفاق، ظلّ يمارس الفن التشكيلي كـ"بدائي" في السلوك وكمثقف في الرؤية. وهذه المقاربة المزدوجة هي التي تحسّسها بشكل واضح جان هوبير مارتان، وانتبه إلى خاصيتها الإبداعية المنزاحة عن مفهومية الفن الغربي الجافة والفارغة أحيانًا كثيرة، كما عن الفن النمطي المنمّق الذي كان يمارسه كثير من الفنانين العرب حينها. كان لخضر يعيش إيقاعين: إيقاع الذاكرة الشعبية برموزها وعلاماتها وأسرارها ومساربها الظاهرة والباطنة، وإيقاع العلم المعرفي الذي يتقصّى تلك الذاكرة بشكل عميق. من ثم فهو كباحث كان يعيش تجربة البحث في الثقافة الشعبية باعتبارها تجربة حياة والعكس بالعكس.

لم يكن هذا الازدواج أبدًا ضربًا من الشيزوفرانيا المتفشية في المثقف العربي منذ عصر النهضة. إنها بالأحرى، وعلى غرار ما يقول عبد الكبير الخطيبي، اندماج مزدوج. لم يكن فناننا يهتم بالنقد بقدر ما كان يهتم بالحوار والاستكشاف والغور في قلب ثقافة تقوده نحو مكامن انبثاقها. وهو من ثم كان أقرب إلى الإثنولوجيا منه إلى الفكر الفلسفي.

لا يندرج بوجمعة لخضر في أي أقنوم من أقانيم التشكيل التي نعرفها. هو لا يهتم بطبيعة اللوحة من حيث هي كذلك. إنها فقط نافذة تقوم التجربة "التشكيلية" بفتحها على مجاهيل الوجود. ما يهتم به هذا الرجل هو تحويل المعارف اليدوية والتصورات الخيالية إلى صور مبنية ومرئية. ومن ثم كانت أعماله الفنية عبارة عن كراسٍ ومرايا ومدافئ ولوحات أيضًا. ولا زال بيته لحد الآن يزخر بالمكونات التي تجعله بيتًا فنيًا وحافظةً لذاكرة هذا الفنان الذي غادرنا وهو لا يتجاوز الخمسين سنة.

الغريب في الأمر، أنه لم يترك لنا بحوثًا كثيرة مكتوبة ومطبوعة أو مرقونة، ولم يدخل "سجل" الباحثين الاجتماعيين. كانت نتائج أبحاثه تجد طريقها إلى نفسه وتتشكّل في ذاته وتفْعمها بالأسئلة الحارقة. إنها معضلة الكثير من الباحثين الذين يكتوون بعدوى موضوعات أبحاثهم: هنري كوربان والإسلام الشيعي، لوروا غورهان والعرفان مثلًا. الأمر أشبه بما يحدث للطبيب النفسي حين يقع في حب مريضته، فيضطر إما للتخلي عنها أو عن الطب.

بيت بوجمعة لخضر أشبه بالمتحف الفني، حين تزوره. فالحديقة، كما الداخل كما الشكل الخارجي، تنبئ عن استراتيجية معمارية تطاول معمارية العمل الفني نفسه. لقد أدرك هذا الفنان أمرًا مهمًا في الجوهر الاجتماعي للفن في العالم العربي: ليس من فواصل بين الثقافة الشعبية والفكر العالم المثقف، كما ليس من فوارق وهوّات بين الأشكال التقليدية للفن والسحر والعلامات والرموز وبين الفن المعاصر: فالفن المعاصر "الما بعد حداثي" أقرب إلى تلك الثقافة من العقلانية المعتدة بعقلها ونظرتها الاستمرارية للتاريخ. التاريخ كما الفن، أشبه بتلك المسالك الغابوية - التي جعلها مارتن هايدغر شعارًا لفكره - التي لا يعرف أحد إلى أين تفضي.

هكذا كانت أعمال بوجمعة عبارة عن مزيج من النسيج والنحاس المزخرف والأدوات الاستعمالية والمواد الطبيعية لا يفرّق فيها بين الطبيعي والثقافي، ولا بين الحرفي المهني الشعبي والتدخل العالِم المثقّف للفنان.
عالمه غريب عجيب، تعيش فيه نسور وطيور خرافية، وتركيبات هجينة قريبة من العلامات السحرية، ورؤوس وأجسام تتآلف رغم تنافرها.

عوالم بوجمعة لخضر، يحملها اسمه بشكل قَدَري: إنه الجامع المرتّب للتآلف بين المختلف المتنافر، والخضِر المفسّر المؤول للممتنع من الكلام والرموز. أليس هذا، هو بشكل ما جوهر "المعاصرة" في الفن؟

المساهمون