عزيز أبو علي: الفن والألم

عزيز أبو علي: الفن والألم

02 نوفمبر 2015
عزيز أبو علي، غواش وحبر على ورق
+ الخط -
في مدينة مدريد وبوسطها التاريخي المعروف بـ "البويرتا ديل صول"، وفي عمارة أفرغت من السكان لغرض الترميم، عُثر على جثة الفنان المغربي المقيم في إسبانيا عزيز أبو علي، 45 يومًا بعد وفاته، وقد أصابها التعفن، مسجاة بين لوحاته وأدواته، في الرسم والحفر والتشكيل.

عزيز أبو علي، ذلك الفنان الأسمر الصموت، ذو الابتسامة الكئيبة المرتسمة دومًا على محيّاه، الذي يقطن تلك الشقة في وسط مدريد، منذ سنين طويلة، بحيث حوّلها إلى مرسم في الآن نفسه، كان معروفًا في الحي، بل في إسبانيا كلها بين أوساط الفنانين الكبار. تتوسط الشقّة آلة طباعة للحفر تشهد على عشق هذا الفنان للحفر، وعلى اشتغاله مدة طويلة مع فنانين كبار باعتباره معلم حفر متخصصًا في تحويل اللوحات إلى فن غرافي طباعي.

عزيز أبو علي (1935-1993) ظاهرة خفية ونادرة في الفن التشكيلي العربي المعاصر. عاش طفولة تعيسة وامتهن صغيرًا حرفة العجلاتي في المدينة القديمة بمراكش، سيكتشف موهبة الرسم في نفسه، ويمارسها بعيدًا من رقابة أبيه الفقيه. وستكون أولى رسومه، لوحة لإسكافي الحي. وفي خضم العلاقات التي ربطته بأبناء كثير من أعيان المدينة، سيهتم به أصدقاؤه حين وقفوا على ممكناته الفنية، ويسجلونه لتلقي دروس في اللغة والفن بالمراسلة. وبعدها قدّم نفسه للتسجيل سنة 1964 في مدرسة الفنون الجميلة بتطوان. وبعد أربع سنوات من الدراسة سيلتحق بمدريد لدراسة الحفر ويستقر فيها نهائيًا ويقطع صلاته بالوسط الفني المغربي.

إقرأ أيضًا: إيتيل عدنان، عنفوان امرأة تعانق رحابة الإبداع

في مدريد أصبح عزيز أبو علي أحد الحفارين المرموقين، حيث اشتغل مع أشهر الأسماء الفنية الإسبانية مثل خوان ميرو. وقد حازت منحوتته الرخامية على جائزة الدولة الإسبانية سنة 1973. وفيها أيضًا صاحب العديد من الفنانين العرب؛ كالفنان السوداني راشد دياب والنحات الأردني سامر الطباع.

بدءًا من أوّل صورة مصبوغة وفطرية، وصولًا إلى الرسوم الأخيرة قبل الرحيل، ظلّ عزيز أبو علي قريبًا مما يشكل في بواطنه العناصر الأساسية للمعنى والأسلوب. فالطريقة كما المنظور يبدوان دائمًا منحرفين، ولو بشكل طفيف، سواء عن مسارهما العمودي أم الأفقي. فيتبدى شغف غامر بالميلان المعبّر عن علاقة أكيدة بالأرض والموت. هكذا تفصح الأجسام عن وجودها البصري في الانحناءة، والوجوه في الالتفاتة الخفيفة، كما لو كانت تنطلق في حركة محجوزة، أو تصيخ السمع لكلام خفي مهموس من مصدر قريب، فتؤكد بقوةٍ تلك اليقظة التي يعيشها الفنان تجاه همس الحياة والموت. بيْد أنها يقظة يخترقها الخوف، والانتظار المميت لحدث مّا أو حدوث مّا، قد يكون هو حدث أو حدوث الآخر. ذلك الظلّ الملازم للذات الذي يسكن كل حفْريات ورسوم الستينيات والسبعينيات.

من ثم، يمكن القول إن تجربة عزيز أبو علي بكاملها تدور حول فكرة الموت والولادة (لا الانبعاث). فالكائنات التي يصور، خاصة في أعماله الحفرة، تنضح بالتشوه والمعاناة. والانحناءة التي تلازم الكائنات اللا متحددة والمشوّهة، تحيل في الآن نفسه إلى وضعية الجنين. وكأن الفنان يعبّر عن وجوده باعتباره وجودًا غير مكتمل وغير عيني، محجوب في دهاليز الألم والوجود.

اقرأ أيضًا: فاتح المدرس، الفن بحث مستمر عن الدهشة

تتعرّى الكائنات المعصوبة أمامنا. وذلك نمطها في استعراض الأجسام التي ينخرها الألم، وصمت الزمن وثقله. إنها شخصيات لا تسْعفها المواساة، منذورة لضياعها المحتوم، غير منتظرة للشفقة أو التعاطف، ولا لأي تماهٍ أو تطابق، تعرض نفسها فننقل نظرنا عنها للتوّ، إذ فيها تتجلى صورة موْتنا الداخلي.

يكاد الأمر في أعمال عزيز أبو علي يتعلق بهوس، لا نلبث أن نلاحظ أنه يعاند امحاءه، في تنويعات وتلاوين ليست بأقل هوسًا. فالجسد، جسدُ الفنان، يتراءى لنفسه في المرآة بشكل لانهائي، ليجد نفسه دومًا عند نقطة البداية، وكأن هذا العود الأبدي هو عناد فني ومأساوي للولادة من جديد. ربما كان هذا ما يفسّر الطابع التكراري للعناصر والأشكال، والوضعيات والألوان والأسلوب نفسه. ففيما يبدو، كان لعزيز ملكة الغوص عميقًا حتى كشْط صخرة المعنى.

وبالفعل، تزجُّ بنا اللوحات الغواشية التي تركها عزيز، في الطبقة الأكثر بهجة ومرحًا من كيانه. أيتعلّق الأمر بتناقض أم بآثار مرآوية؟ إنه بالأحرى سفرٌ دائم في جسد المادة. فالطابع التقني للحفْر - بمصادفاته وحدوده - يجعل الفنان مُقيمًا في آلة الزمن. أما الصباغة بالغواش، بمرحها وسيولتها، فإنها تدمجه إلى حدّ كبير في خفّة الوجود. هكذا تغدو تلاوين الحبر الصبيدج والبنّي، هنا منذورة إلى تنويعات لامتناهية في اللون والشكل. وهكذا يصبح الأزرق والأخضر الباهت، والبرتقالي المحمرّ الألوان الرئيسية التي تشكل ملامح عالم طفولي ينضح بالمرح.
بل إننا نشهد في تلك اللوحات الغواشية، تجربة حركية ذات قوّة باهرة. ثمة عواصف من الخطوط الدائرية المتداخلة والمتقاطعة، تسعى للبحث عن شكل واضح المعالم. وثمة لعبة للآثار والرغبة في الكتابة البصرية، فيما وراء الرسم وغائيته التشخيصية. وفيما قبل الهندسية وانعراجاتها المتقلبة. أكان ذلك عبارة عن كلمة، كان الفنان يحضنها في ذاته كما "الجنين النائم"، ذلك الذي يكاد يتبدى في جميع أعمال الحفر؟

وبما أن لوحات الغواش تعبير عن إعادة اكتشاف عزيز لذاته، فإنها جاءت للمحافظة على توازن، مهما كانت هشاشته، في حمأة الدوْرة المدوِّخة للمرارة التي استبدّت لزمن معين بأعماله. هكذا تحوّلت السخرية السوداء التي سهر على بلورتها إلى لعبة من الأشكال والألوان، حيث لا تظهر التشخيصات إلا نادرًا، وحين تظهر فليتم تغليفها برمزية جديدة.

لهذا يغدو من العسير الحديث عن التجريد والتشخيص لدى عزيز أبي علي؛ ذلك لأن أعماله، وهي تبدو تشخيصية، تتعالى على الصور المشخَّصة وأبعادها الدّالّة، وتجرّد المشخَّص من كل سياق عمومي. وهي تبدو تجريدية، تغدو كذلك بخضوعها للضرورات الدلالية والرمزية للموضوع. لذا فإن تصورًا نقديًا للتشخيصية والتجريدية كهذا يعتبر نتيجة لصرامة فنية حازمة لا تقصي أبدا الحرية ذات الطابع الساخر.

المساهمون