الثورة اللغوية في الصين

الثورة اللغوية في الصين

10 يوليو 2016
+ الخط -
أدهشت الصين الباحثين فيها منذ بداية القرن العشرين بالتناقض الظاهري بين الثورات العنيفة التي وقعت فيها على التوالي، والتي كادت تقضي على جذور حضارتها، وبين قدرتها على تدارك ما احتاجت إلى تداركه من تطرّف وتعصب الثورات، لتحافظ على مجتمعها وتضمن استمرارية حضارتها التي كانت على وشك التشتت والهلاك. ومثال ذلك الثورة اللغوية الصينية التي فرضت انقطاعاً بين ما يسمى باللغة الصينية الكلاسيكية واللغة الصينية الحديثة، حيث عُممت الأخيرة في جميع أوساط المجتمع الصيني على حساب الأولى التي نُظر إليها بأنها فقط للاستخدام في التأليف والأدب.

نشأت اللغة الصينية الحديثة عن اللغة العامية المتبناة من الأدب الشعبي والحوار، وكانت قد شكلت مع اللغة الكلاسيكية ازدواجية لغوية مستقرة في الصين. لم تختلف هذه الازدواجية كثيراً عن وضع الفصحى والعامية في الدول العربية اليوم، حتى أنهتها حركات في العشرينيات من القرن الماضي، والتي التمست السيادة المطلقة للغة الصينية الحديثة، من منطلق أنها تمثل القومية والحداثة الصينية، والوحيدة التي يبشّر استخدامها بنهضة الأمة الصينية المرجوة.

آنذاك، أقبلت فئة من المثقفين الصينيين ذات الحماسة الثورية على الكتابة والإبداع الأدبي بهذه اللغة العامية. وسرعان ما حشدت أتباعاً متحمسين لها في الأوساط السياسية والتعليمية. وما إن مضت سنوات على انطلاق هذه الحركة، حتى انتشرت هذه اللغة في المدارس والجامعات وغلبت على المراسلات الرسمية وغير الرسمية معا.

واليوم، أصبحت سيادة اللغة الصينية الحديثة عادة راسخة مسلماً بها، لا يبالي معظم الصينيين بمسيرة نشأتها. ففي الكتب المدرسية، استبدلت اللغة الصينية الكلاسيكية بنظيرتها العامية، وهي إحدى إنجازات ما يسمى بحركة اللغة العامية، والتي هي في الأصل جزء من الثورة الديمقراطية الجديدة التي وضعت الأسس للصين المعاصرة سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وطبقاً لهذا السرد، نجحت هذه الحركة لأنها تماشت مع الهدف الرشيد للقوى التقدمية الصينية في تحقيق تكافؤ للفرص أمام أفراد المجتمع، للحصول على العلوم الحديثة والمجالات الإبداعية بلغة سهلة قادرة على استيعاب المعلومات الجديدة. كما ساهمت هذه اللغة في استنارة عقول العامة ووعيهم القومي للنضال المشترك من أجل الحرية والاستقلال والنهضة والحداثة. من هنا يتضح أن شرعية هذه الحركة تعود إلى ترابطها مع الثورة الصينية، فأي شك في شرعية الأولى يؤدي إلى الشك في شرعية الأخيرة.

ولكن، لا تعني سيادة اللغة الصينية الحديثة اختفاء المشاكل اللغوية والجدل حولها في الصين اليوم، مثلما لا يعني نجاح الثورة الصينية أن الصين قد اهتدت إلى طريق النهضة والحداثة السليمة. إن الاستبدال اللغوي أوالقضاء على الازدواجية اللغوية جاء بشكل مفاجئ وعنيف ليغير العادة اللغوية المستمرة لآلاف السنين في فترة زمنية قصيرة لا تتعدى بضع سنوات. لذا من المستحيل أن يتحقق هذا الاستبدال بدون تأمل جدّي في تأثيرها السلبي على استمرارية الحضارة الصينية.

في السنوات الأخيرة، ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي مناظرات عدة، تحدى فيها المشاركون شرعية الثورة اللغوية الصينية بعواقبها المتمثلة في جهل الصينيين المعاصرين بتراثهم الحضاري، مما أدى إلى ضياع القيم التقليدية الصينية القيمة أمام هجوم النزعة الاستهلاكية.

وعلى هذه الخلفية نشر المؤرخ جانغ باومينغ كتاب "اللغة الكلاسيكية واللغة العامية: الارتباك لقرن واحد" بهدف إعادة النظر في سرد الثورة اللغوية الصينية، فقد ادعى أن هذه الثورة قد حلت المشاكل اللغوية في الصين مرة واحدة وإلى الأبد، لأنها واكبت التيار التاريخي التقدمي الصحيح. فهي وبرأيه، لم تسفر عن اضطرابات تضر باستقرار واستمرارية الحضارة الصينية، إذ وجدت قوى مضادة وقفت بوجه طيش وتهور الثوّار. وعليه عاد الكاتب إلى ملف الجدل اللغوي في العشرينيات لإعادة سرد مسيرة هذه الثورة التي غيرت مصير اللغة الصينية وأبنائها.

في سرد جانغ، كان هناك مذهبان أحدهما مذهب "الشباب الجدد" وأعضاؤهم رواد الثورة اللغوية، والآخر مذهب "القياس العلمي" وأعضاؤه المقاومون لهذه الثورة. اشتهر المذهب الأول لأنه ذُكر بالتفصيل في السرد الرسمي الذي يتكون من الليبيراليين واليساريين الذين يدعمون العلم والديمقراطية كأسس لمستقبل الصين. كانوا متعصبين لإصلاح اللغة الصينية ولإيجاد لغة سهلة حديثة قادرة على التعبير المنطقي الواضح الذي لا يستثني عامة الصينيين من المشاركة في السياسة والثورات الاجتماعية والثقافية. اختار هذا المذهب اللغة العامية، لأنها تتسم بالسهولة، فهي لغة العامة، ولغة الاستنارة والديموقراطية بطبيعة الحال، أما اللغة الكلاسيكية فهي لغة الخاصة وتمثل النخبة وبالتالي هي تعرقل تقدم الصين ونهضتها.

أما مذهب "القياس العلمي"، فأخبرنا جانغ بأنه كاد يختفي في السرد الرسمي ولكنه ساهم في مقاومة الموقف المتطرف لدى المذهب الأول. في رأي "القياس العلمي"، إن مذهب "الشباب الجدد" أظهر تعصبا غير عقلاني، فقد اعتبر أن اللغة العامية هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى الديمقراطية والعلم. وبالتالي، خيم هذا التعصب على أي تأمل وتصور بشأن اللغة فأقحمها في الأجندة الأيديولوجية والصراع السياسي، إذ ظهرت اللغة بأنها أصل المشاكل السياسية والاجتماعية وبأن تغيير العادة اللغوية هو الحل.

انتقد مذهب "القياس العلمي" هذا الموقف انتقادا شديدا وأصرّ على براءة اللغة من السياسة. وبحسب هذا المذهب، فإن استبدال اللغة الكلاسيكية سيقطع الرابطة بين الأجيال المستقبلية من الصينيين وتراثهم الذي تدّخره وتنقله هذه اللغة، وما يزال هذا التراث يقدم للصينيين اليوم دليلا وإرشادا لمواكبة الحداثة، لأن كثيرا من المبادئ والأحكام فيه تتوافق مع روح الحداثة. يتمثل هذا الدليل والإرشاد في تثقيف العقول وتأديب القلوب من خلال القراءة والكتابة باللغة الكلاسيكية ـ تلك اللغة الأنيقة الفصيحة البليغة، والحل الجذري للمشاكل السياسية الاجتماعية التي تقف في طريق تنشئة الصينيين وتثقيفهم.

بعد إعادة سرد تاريخ الثورة والمقاومة حول اللغة في أوائل القرن العشرين، تعمق جانغ في استكشاف نقاط الخلاف والاتفاق بين المذهبين، فأشار إلى أن كليهما قد تأثرا بفكرة الإنسانية المستوردة من الغرب واختلفا في تفسيرها. فمذهب "الشباب الجدد" أصر على التحرر من أي قيد، خاصة الديكتاتورية والطبقية، للتوصل إلى الديمقراطية والمساواة. بينما علّق المذهب الثاني على أهمية تهذيب الذات لإعلاء مستوى الرفاهية والأخلاق في المجتمع. ولكن رغم هذا الشد والجذب، استجاب المذهبان كلاهما للقلق المشترك إزاء المجتمع الصيني الذي كان يعيش حالة من الاضطراب الداخلي والتهديد الخارجي. واتفقا على هدف مشترك، أي تخليص الصين من التخلف والضعف والعمل على نهضتها لمواكبة الحداثة، ولكن اختلفا على كيفية تحقيق هذه الرؤية.

في نهاية الكتاب، اعترف جانغ بمساهمة كلا المذهبين في إصلاح وتجديد النظام اللغوي والثقافي في الصين. فلم يكن ليحدث الاستبدال اللغوي لو لم يوجد "الشباب الجدد"، ولكن ساهم "القياس العلمي" في إيقاف تعصبه وتمدده بشكل أوسع. واعتقد جانغ أن وجود التعصب والمقاومة دليل على ما تتسم به الحضارة الصينية من التسامح التعددي والقدرة على رعاية التوازن بين التيارات المختلفة.

(أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية بجامعة بكين)

المساهمون