سنوات الفرح الثوري: ذاكرة فردية تتحدى القبح

سنوات الفرح الثوري: ذاكرة فردية تتحدى القبح

09 مايو 2016
(القاهرة: دار التنوير، 2015)
+ الخط -
هل هي السعادة الثورية التي تكتب عنها الباحثة والكاتبة اللبنانية دلال البزري في حكايات نضال "الرفاق" في منظمة العمل الشيوعي قبيل اندلاع الحرب الأهلية؟ أم انها حالة من الفرح الصافي والإيمان بالمطلق، حولت أبناء جيلها آنذاك أرواحا جامحة تطمح إلى تغيير العالم بقدرتها على نهم الأفكار الموازية لقدرتها على الضحك منها؟

في خاتمة كتابها الأخير "سنوات السعادة الثورية" الصادر عن دار التنوير، وفيه تنسج حكايات رفاقها في الخطوات الأولى للنضال الحزبي، تقول البزري في وصف حالها وحالهم: "ما كان يمكن، خلال هذه السنوات الثلاث، أن ننظر إلى المستقبل من دون أن نراه مبتسماً لنا، كما كنا مبتسمين دائماً في قلب تلك المخاطر: من المناخ نفسه اقتبسنا كل هذا الضحك، لنعجنه بعمرنا، وحرّيتنا. حرية مثل الرياح العاتية، تجرّنا، ونحن نطير، بأجنحة خفيفة، فرحة، إلى حيث تريد، حيث النضال من أجل القضايا العادلة...".

تبحث البزري، عن الجمال في ذاكرة ما قبل الحرب الأهلية، حيث العمل الحزبي الطلابي النضالي في سبيل العدالة، محلية أو قومية أو عالمية، يمتزج برحلة استكشاف الذات. تقول البزري إن الرفاق الذين تسرد رواياتهم هم مزيج من الواقع والخيال، استعارت حياتهم وأدخلت عليها تفاصيل روائية.

غير أن الرواية التي تقدمها، هي توثيق أو لململة لتفاصيل رحلة استكشاف النضال والذات في آن، وهي بذلك تصح أن توصف بسيرة ذاتية لأبطال الكتاب، وعمل استقصائي صحافي يوثق مرحلة خاصة جدا من النضالات الكبرى، وحلم التغيير من شعارات العدالة الاجتماعية إلى تحرير فلسطين وقومية عبد الناصر.

تخشى البزري "عقوبة قتل الذاكرة" الفردية والجماعية، باعتبارها أشد وحشية وجهنمية من قتل الجسد أو تعذيبه. ذاكرة التجارب الفردية، ترويها البرزي في كتابها بعمق وخفة وسخرية في آن، ولا يقلل من أهميتها في احتضان هذه الذاكرة قيامها بـ"تمويه" الشخصيات عبر إضافة تفاصيل أرادتها روائية على عمل توثيقي، وهي التفاصيل نفسها التي جعلت قراءة الكتاب متعة فعلية. هل شارك هؤلاء الأبطال نصف الحقيقيين الكاتبة وقراءها الضحك والحنين وهم يستعيدون في حكاياها روح مرحلة طبعها الإيمان المطلق بالقدرة على اختراع عالم أجمل؟ هل لا يزال ذلك الفرح العميق الممزوج ببراءة مفقودة، يعني شيئا لهؤلاء؟ إلام انتهت هذه التجارب؟ وأين أصبح أصحابها؟

إنها ذاكرة مجتزأة أو مموهة، ترويها دلال البزري، في توثيقها تجارب تريدها أن تعكس "جمال سذاجتنا مقابل سعينا الحثيث للثقافة"، وكأنها تريد أن تضفي ألوانا زاهية على واقع بات باهتا جدا في سوداويته وضحالته. لا يشبه عالم هؤلاء "المناضلين" الرومنسيين، عالم طلاب جامعات اليوم ذا الأفق الضيق. كما لا يشبه نضالهم نشاط وسائل التواصل الحديثة اليوم، حيث يكفي أن تكبس زر "لايك" على قصة معتقل في سجون الظلم حتى تصبح "مناضلا".

تسقط الرومنسية سقوطا مفاجئا ومدويا في الخاتمة، إذ تجد الكاتبة نفسها في خضم الحرب الأهلية في موقع النضال نفسه. إلا أنها تتحول، كما تروي، إلى آلة تعمل من دون كلل بين تربية الأولاد والنضال والدراسة الجامعية، أو بحسب وصفها لنفسها، هرة تريد أن تحمي أطفالها بمخالبها من مخاطر الحرب. لم يتحقق حلم العائلة البولشيفية المناضلة من أجل العدالة، أو على الأقل، لم يتحقق كما أرادته الراوية. السيناريو لم يتطابق مع واقع مفاجىء وقاس.

تنتهي "سنوات السعادة الثورية" بسرعة فائقة مع بدء سنوات الحرب الأهلية، ليتحول الفرح الثوري إلى محاولة دؤوبة للبقاء على قيد الحياة. تسأل الكاتبة نفسها وهو سؤال محق: "هل اكتشاف سراب الأحلام الثورية يلغيها؟ أم أنها نوع من الإيمان نحتاج إلى الاعتقاد بوجوده لكي نأمل أو نصمد أو نرجو"؟ تحمل حكايات دلال البزري وأبطال كتابها الكثير من النوستالجيا بما هي ضمنا دعوة للصمود في وجه قبح الواقع.

أين انتهى مسار أبطال الحكاية التي هي "نصف واقعية ونصف متخيلة" كما أرادتها الكاتبة؟ هل غرقوا أيضا في دوامة الحرب الأهلية؟ أم غادروا البلد؟ أم انتهى نضالهم مع اندلاع الحرب؟ أم تحولوا إلى قتلة باسم النضال؟ هل ستروي الحكاية في فصولها القادمة تفاصيل سقوط الأحلام الثورية في أتون الحرب؟ هل ستجد البزري جمالا ما في الفصول القادمة؟ هل ستجرؤ على رواية قبح الحرب كما جرؤت على كشف الذات عبر فتح أبواب الذاكرة بما تحمله من حنين وجمال وأيضا ألم؟

(باحثة لبنانية)

المساهمون