"رسائل زمن العاصفة"... بوح الذاكرة

"رسائل زمن العاصفة"... بوح الذاكرة

16 فبراير 2016
(طنجة: دار سليكي أخوين، 2015)
+ الخط -

يطل القارئ في "رسائل زمن العاصفة" على زمن التيه ومناخات التشرد التي عاشها الراوي بعد ليلة يتيمة مع غادة الغرناط في شاطئ الريفيين على طريق سبتة المحتلة بالمغرب، يعيش فيها القارئ مشاهد تراجيدية مما حدث على ذلك الشاطئ ويظل عالقا في باله ثلاثة أسس بنى عليها الروائي المغربي روايته وهي، "مجرة الجرو" ورسائل غادة الغرناط الملفوفة في لفافة زرقاء، ثم رسالة أختها الزهرة التي تبوح فيها لعناتها وانحطاطها وتورطها في التخابر على أختها وعلى حبيبها.

يظل الراوي أو الحبيب في الراوية اسما مجهولا، ولا إشارات عنه أو تدل عليه إلّا "مجرة الجرو" التي ذهبت أمه في إثرها يوم كان يعيش في "البْلاط"، قرية صغيرة نواحي شفشاون، في المنافي والجبال. كان طفلا سرعان ما تحول إلى كتلة من العظم والجلد بفعل القيء والإسهال، حملته أمه وذهبت به إلى مشعوذة بقرية مجاورة، فكوت محيط سرّته سبع مرات، وأوصت أمه أن تأتي بجرو حديث الولادة فتذبحه وتشربه من دمه نصف كأس حتى يعود لطبيعته. "مجرة الجرو" هذه ظلت السرّ الذي لم يبح فيه لغادة وهي تسأله عن المجرة وتضحك ثم تدفن رأسها ما بين عنقه وكتفه.

في روايته الأولى هذه، والتي رشحت لجائرة "البوكر" العالمية للرواية العربية على اللائحة الطويلة لـ2016، يعود الروائي المغربي عبد النور مزين إلى زمن النضالات الجماهيرية ونضالات الحركة الطلابية ومحاولات الانقلاب على النظام مطلع سبعينيات القرن الماضي التي أُخمدت بمقتل المئات واعتقال الآلاف من الأشخاص، بأبعاد جديدة طالت الحياة الاجتماعية والعاطفية والسياسية للمعتقلين، حياتهم وحقوقهم قبل السجن، وحياتهم المفككة والمصنوعة من التيه والتشرد بعد مرحلة السجن.

يأخذنا مزين إلى فضاءات كثيرة ومدن وأزقة بأسمائها وعبق التاريخ فيها. تبدأ الرواية بمشهد عاطفي مبهج يعيشه أربعة رجال وأربع نساء على شاطئ الريفيين في الطريق المؤدي إلى سبتة المحتلة. هناك خيّم وقضى كل ثنائي منهم "ليلة عاصفة". ثمّة وصف وتشبيهات مكثفة لليلة العاصفة بجنونها والهيام الذي دار بين الطرفين إلى أن ينتقل إلى مسامع المخيمين ما حدث في الدار البيضاء من تمرد شعبي، مما جعلهم يتفرقون في المدن، هاربين وباحثين عن أمان من أنوف المتخابرين، ولكنّ غادة الغرناط عادت إلى تطوان لزيارة خالتها في باب "العُقلة"، إحدى بوابات المدينة القديمة، وتركت خلفها صاحب "مجرة الجرو" توصيه ألّا يذهب إلى الرباط بسبب الرصاص الذي يملأ سماء الدار البيضاء، إلا أنه عاد بحاله إلى طنجة، لكنّها لفظته، لم يجد مأوى يحفظه عن أعين المتخابرين، فاستقل القطار وعاد إلى الرباط، وبخطة محكمة مع أخت غادة الغرناط، الزهرة الغرناط، أوقعت به شبكة المتخابرين وقادته إلى سجن "لعلو" في الرباط ليمضي أربع سنوات هناك.

لم نعرف عن حياة الراوي في السجن سوى أنه عاش صمته ولاذ إلى ذكرى غادة الغرناط، لقد أوقعت به الزهرة الغرناط حيث اعترفت له برسالة من بين مجموع الرسائل التي سلّمته إياها بيده يوم عاد من سجنه بحثا عن غادة في تطوان. تتكثف أحداث الراوية عندما نقرأ رسالتها الطويلة التي تشغل حيّزا واسعا من الرواية، تبدو فيها الزهرة أنها قادت على خطأ ودون وعي منها حياة أختها غادة وحبيبها وأودت بهما إلى التهلكة. لعنت الزهرة نفسها كثيرا وهي تبوح لحبيب أختها أنها من أوقعت به في أيدي المتخابرين عندما ذهب إلى بريد الرباط ليحمل سماعة الهاتف ويتصل ببيت خالتها، يطلب الاطمئنان عليها.

كرَس الكاتب شخصية الزهرة كأنها راوٍ آخر، عرفنا من خلالها تفاصيل الحياة التي عاشها الثنائي العاشق في أزقة الرباط في العكاري وعلى شاطئ الوداية مقابل الأضواء المنبعثة من "سلا". اعترافات تخللتها رحلة الراوي بعد خروجه من "لعلو" وهيمانه في دروب مالقا وغرناطة وزنازين طوليدو على الضفة الأخرى، يوم اتُهم من طرف الإسبانيين بأنه عميل موجه جاء لإلقاء عبد الرحيم السوسي، أحد أعضاء مجموعة العواء، من فوق جسر نهر "التاخو".

نتابع الراوي وهو يدخل حالة التردي، حالة المقارنة بين زنازين وطنه وزنازين البلاد التي تسمه بـ"المورو" جعلته يلوذ بالصمت كمدافع شرس أمام التهم المقدمة له. تعود الشخصية إلى المغرب، وأحداث كثيرة تقع وتُسرد، إلّا أن الزهرة تخبره بنهاية رسالتها عن اختفاء غادة بعد حملها لـ"برعم ورد" في بطنها، اختفت وغابت، ولم نعد نعرف عنها شيئا إلّا من خلال مذكراتها. أخذت قرية كسير بالجنوب المغربي مكاناً قصيا لتفتح برعم الورد، عبد الكريم أيام الأقحوان، وذهبت به إلى شاطئ الريفيين ليلعب هناك، ثم عرجت إلى تطوان لتكون إحدى ضحايا انتفاضة الخبز هناك.

(صحفية فلسطينية)

المساهمون