إدوار الخرّاط: خيانة النسيان

إدوار الخرّاط: خيانة النسيان

10 يناير 2016
إدوار الخراط (العربي الجديد)
+ الخط -
لا أحد يعرف في أيّ عالم عاشَ إدوار الخرّاط خلال السنوات الأربع الماضية. وإني أتساءل إذا ما كان مالكاً لذاكرته وقت احتشدت شوارع القاهرة بجموع المصريين في 25 يناير 2011، وميدان التحرير تحديداً، وليس من مسافة كبيرة تفصل بين بيته في الزمالك وبين الهتافات الصاعدة إلى السماء.. وأدركَ بالتالي ما يجري؟ هل كان غائباً حينذاك عن حَدَثٍ طالما تطلع إليه، أسوة بأيّ مثقف تنويريّ يماثله؟ هل وصلَته، على الأقلّ، تلك الأصوات الغاضبة جرّاء إهمال الدولة الطويل لشعبها، لتتحوّل إلى "صَلاة" جَماعية استثنائية يهتز لها جسده؟ تتحوّل إلى حَربةٍ تطعن "التنين" الراهن المستبد، لتنتصر لـ"رامة" الطيبة الدائمة دوام الزمن؟

أجدني أملأ بياضَ الذاكرة الضائعة لصاحب "رامة والتنين" وكأنها صفحة خلت من تأويلات كُتبت عبر عشرين سنة وأكثر! كأني "أنتهز" عجزه عن الردّ أو التصويب المهذَّب الدقيق؛ فأمارس تأويلاً ربما لم يخطر له، لكني أعتقد أنه سيغفر لي هذا "التطاول". تطاول يزعم أنّ "رامة" هي الأنثى القابلة لكلّ الأقنعة، ما دامت ممتنعة عن الموت رغم مرور العصور، ما يجعلها المعشوقة الأسطورية بامتياز. ولعلّها، في الوقت نفسه، "الولّادة الأبدية" – مصر: الفرعونية، واليونانية، والرومانية، والقبطية، والعربية: هؤلاء جميعاً، ومعاً، في سبيكة متماسكة صلبة جديرة بعَدوٍّ أسطوريّ ينازعها البقاء يتمثّل في "التنين"، لا تكون مجابهته إلّا بأيقونة "مار جرجس"، أو "الخَضْر".

إذَن؛ لا بُدّ من الحَرْبَة يطعن بها القِدّيسُ وحشَ الشرور.
إذَن؛ لا بُدّ من وخزة تستفز ذاكرة إدوار الخرّاط الضائعة، فيستعيد صاحبها تفاصيل التظاهرات التي عاشها، شاباً تروتسكياً قارئاً مندفعاً، يواجه وسط جموعها الثائرة عساكر الإنكليز في ميادين الإسكندرية زمناً. ورجال البوليس المَلَكي زمناً آخر. وأسوار الأمن المركزي زمناً ثالثاً. حينها، يصير له الخروج ليكون واحداً هنا والآن، مع "المُصّلين"!

إذَن؛ كان لا بُدّ من تلك الصلاة الجماعية التي شقّتْ سماءَ المدينة، وعبرَتْ مياهَ النيل، لتبلغ سمع إدوار الخرّاط في بيته مخذولاً من ذاكرته البيضاء النظيفة. تبلغه فـ"يريد" أن يشارك لكنه "يعجز"! يريد أن يسهر داخل الحلقات الشبابية وينصت إلى حواراتهم. أن يُدفئ جسده الكهل بالنيران التي أشعلوها حولهم في الليل، أن يطرد كهولته بالحماسة الخالية من الحسابات، بالمفهوم التجاريّ المحض، ذاك الذي احترفته جماعةٌ تعرف "من أين تؤكل الكتف" وكيف! وأن يغنّي معهم ويضحك. أن يتناول من أكفهم الكريمة "لقمة عيش" يمضغها، هكذا خالية من سواها ربما، بتأني وامتنان الرجل المتواضع بحق حيال توقير الشباب للكبار من أمثاله.

لماذا آتي على ذِكْر إدوار الخرّاط في هذا السياق التخيلي، بعد أن رحلَ عنّا في اليوم الأول من الشهر الأخير لعام 2015؟ ربما لأنه من القليلين الذين غابوا عن الإعلام المرئيّ "الصاخب" خلال السنوات الساخنة الأربع الماضية، كون "الزهايمر" اللعين استبَدَّ به فمحا منه ذاكرةً/ عقلاً يملك صاحبه ما يقوله في تلك اللحظات الفاصلة. غابَت الذاكرة، فغابَ إدوار الخرّاط، وكان لـ"الإعلام" مبرر تغييبه بالتالي. ولقد افتقدناه.

أما الآن، وقد بات الرجل تاريخاً اكتملَت صفحاتُ كتاب أسفاره الضخم بخروجه الهادئ من الحياة؛ هل ثمّة ما برر غيابه كَخَبَر لافت في الإعلام "القومي" الحكومي والخاص المتلفز المليء بفضائح لا معنى لها! كَخَبَر فقط، وبضعة دقائق بَثّ تحيط بمبدعٍ متعدد، بكاتبٍ مجدد، بأبٍ طالما أخذ بيد أبناء الطموحات الشباب، فأشاد بكتاباتهم ووضعهم على خريطة الأدب بما يستحقون!

أعادَ رحيل إدوار الخرّاط لذاكرتي مجموعة كلمات كِدتُ أهجرها، من بينها: النكران، والنسيان.
وكم نحن ننسى، فنخون!

(كاتب وروائي أردني)

اقرأ أيضا
ممّا رواه إدوار الخرّاط عن زمنه

المساهمون