الجنون في غياهب السجون الأميركيّة

الجنون في غياهب السجون الأميركيّة

13 سبتمبر 2015
(القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2015)
+ الخط -
لا تراعي المنظومات العقابية في معظم دول العالم مسألة الصحة النفسية للمسجونين، وهو ما يجعل الاضطرابات العقلية والنفسية وما يصاحبها من انحرافات سلوكية من الظواهر المنتشرة خلف القضبان، بل إن الجهات المختصة تتجاهل عمداً أن معدل انتشار الاضطرابات العقلية بين السجناء عالٍ للغاية؛ إذ يبلغ خمسة أضعاف معدل انتشارها بين عامة الناس.

يعدّ نموذج السجون الأميركية الذي يُعاد تصديره إلى معظم دول العالم النامي هو سرّ البلاء في صناعة إنسان مهترئ الذات، محطم، مهيّئ لأن يكون أكثر إجراماً وعنفاً ضد نفسه والآخرين أثناء تأدية عقوبته وبعدها، بالرغم من أن معظم رواد السجون لم يدخلوها أساساً بسبب جرائم عنف!

يلاحظ الخبراء الرسميون والمسؤولون خطورة الأمر، لكنهم بدلاً من أن يقوموا بتحسين أوضاع السجون، وإعادة تأهيل المذنبين، وتطوير علاجاتهم النفسية، فإنهم يرجحون تغليظ العقوبة عليهم، ومعظمهم من هؤلاء المرضى، لأطول فترة ممكنة خلف الأسوار الحديدية بمعزل عن العالم في مُدد زمنية قد تستغرق حياتهم!

تفرّغ الطبيب النفسي الأميركي تيري كوبرز للعديد من تلك الحالات المرضية القابعة خلف الأسوار، مبيّناً كيف تدهورت أحوالها بفضل هذه النوعية المقيتة من الأنظمة العقابية، وما تتسبب فيه من مآسٍ نفسية واجتماعية، متهماً شرطة السجون الفيدرالية وبعض المسؤولين في الولايات المتحدة وبعض الهيئات الحكومية، الذين يستفيدون من هذا الواقع الأليم لزيادة ميزانياتهم وسلطتهم.

قصص مأساوية
كمّ المآسي التي يسردها المؤلف من داخل السجون الأميركية ضخم جداً، ومؤلم للغاية. وهو يُجمِل مجموعة من تلك الحالات التي أصيبت بأمراض نفسية وتحتاج رعاية خاصة، عجز كوبرز عن مساعدتها بالشكل اللائق لخلل المنظومة الصحية داخل السجون؛ فيقول إن أحدهم أخبره بأن الحراس يضربونه دائماً، بينما قال سجين ثانٍ إنه يتعرّض للاغتصاب وبحاجة إلى رعاية نفسية. وبكى رجل ثالث وهو يخبره بأن زوجته وابنته قد توقفتا عن زيارته، وأنه يشعر بالقلق من أن تكونا قد تعرضتا لمشكلة ما، أو أن تكون زوجته تواعد رجلاً آخر. توسّل الرجل إلى كوبرز كي يتصل بابنته ويتأكد من أنها بخير. وأخبره رابع أنه قد أودِع المستشفى عدة مرات لأسباب مرضية نفسية، وسأله إن كان بإمكانه إجراء فحص نفسي له لتحديد إن كان هناك أساس يمكنه الاستناد إليه في التذرُّع بنقص الأهلية في محاكمته القادمة، في حين أوضح له آخر أنه سيُطلَق سراحه قريباً ويرغب في المجيء إليه في عيادته للتحدث معه بشأن ما يراوده من أفكار انتحارية!

العُرف القاتل
يحتوي الكتاب وصفاً دقيقاً لبعض الأسباب التي زجَّت بعدد كبير منهم في السجن، إضافة إلى مناقشة الصدمات والضغوط التي تؤدي إلى جنون كثيرين منهم، ومعظمهم دخلوا السجن دون أن تكون لديهم أية مشكلة سابقة تتعلق بصحتهم العقلية. كما يقدم أيضاً تقييماً نقدياً لخدمات الصحة العقلية داخل المؤسسات العقابية المعاصرة.

يلقي المؤلف الضوء على العُرف السائد بين السجناء الرجال؛ حيث يكون على أي سجين ألا يُظهِرَ للسجناء الآخرين خوفه أو ضعفه، وينبغي ألا يتدخل في شؤون الآخرين مهما رأى أو سمع. يجب عليه أيضاً التصرف كما لو كان على استعداد للعراك إذا تحداه سجينٌ آخر، وفي مرحلة مبكرة من دخوله السجن سيتحداه الآخرون ليكتشفوا مكنون شخصيته. ويجب ألا يصدر عنه أي فعل قد يجعل السجناء الآخرين يظنون أنه مثليٌّ أو تافه أو جبان. كما ينبغي ألا يراه أحد وهو يتحدث مع الحراس أو موظفي السجن في موقف يبدو فيه للسجناء الآخرين كأنه متواطئ مع السلطات!

في مقابل ذلك، يجد الجناة المضطربون عقلياً صعوبة شديدة في التكيّف مع تلك الأعراف المقيتة؛ فيرى الكثيرون منهم أن إخفاء مخاوفهم وضعفهم أمر مستحيل من الناحية العملية. أما الأصحاء فكثير منهم يتعرّض للاكتئاب، على الأقل!

كما يطلق السجناء الآخرون على مَن يعانون من ذِهان واضح أو اضطراب مزمن أسماءً مسيئة، ويعتدون عليهم. والحقيقة أن السجناء المضطربين عقلياً يتناولون أدوية مضادة للذهان تبطئ من ردود أفعالهم؛ ما يجعلهم أكثر عرضة لأن تتم مهاجمتهم على حين غرّة من الجانب أو الخلف. في حين تزيد نسبة تعرّض السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية للاغتصاب.

في حين تميل فئة أخرى من المجرمين المضطربين عقلياً إلى مهاجمة الآخرين عند تعرضهم لأبسط صور الاستفزاز، فيتعرضون لعمليات انتقامية عنيفة، أو يقضون وقتاً طويلاً في الحبس الانفرادي. وسواء أكان السجناء المصابون بأمراض عقلية ضحايا أم يهاجمون الآخرين بلا تعقّل ويسببون لأنفسهم المشكلات، فإنهم يكونون غير مؤهلين على نحو كافٍ للتأقلم مع بيئة السجن القاسية.

التشخيص الطبي يقول إنّ عدداً هائلاً من السجناء الذين يعانون من اضطرابات عقلية على درجة من الخطورة يحتاجون علاجاً نفسيا مُكثفاً. لكن السجون لا تستجيب لتلبية ذلك. فتتعرض نسبة كبيرة منهم لاضطرابات خطيرة، وفي الوقت ذاته، يعاقب الحراس السجناء الذين يعانون من أمراض عقلية ولا يمكنهم اتباع القواعد، في حين يستقوي عليهم السجناء الأصحاء أو ينبذونهم، ويصفونهم بالمخبولين.

إنهم ضعفاء، ولا توفر لهم سلطة السجن الرعاية اللازمة لحمايتهم من الأوغاد، ولا توفر لهم العلاج اللازم، لدرجة تبلّد مشاعر الأطباء النفسيين الرسميين المكلفين بمتابعتهم، حيث يذكر المؤلف أن بعضهم ينفي نفياً تاماً كل ما يحدث له داخل السجن من انتهاكات جسدية ونفسية!

سجون النساء
لا تقل معاناة النساء السجينات المضطربات عقلياً عن الرجال، لكن هناك اختلافاً يسيراً في نوعية المشكلات. فالواقع الاجتماعي ذاته يزيد من أعدادهن خلف القضبان، حيث يتم إخراجهن من المؤسسات العلاجية، إضافة إلى الفقر، ونقص الخدمات الاجتماعية، وتجريم التشرّد، والحرب على المخدرات، وأنظمة القضاء المتشددة، وغيرها من المشكلات التي تجعل السجون تكتظ بالنساء.

معدل انتشار الاضطرابات العقلية بوجه عام لدى النساء مرتفع، والاكتئاب على وجه التحديد هو الأكثر ارتفاعاً من الاضطرابات الأخرى. وقد تعرّض المؤلف لبعض المشكلات المحددة التي تواجه السجينات؛ مثل صعوبات البقاء على اتصال بعائلاتهن، وخاصةً أطفالهن. وبما أن نسبة كبيرة منهنّ قد تعرضن للاعتداء الجنسي في طفولتهن، وعدداً ليس بقليل منهن يعاني من مشكلات تعاطي المخدرات، فليس مستغرباً أن يعاني عدد كبير منهن من الاكتئاب!

التشخيص والعلاج
خمسة وعشرون عاماً قضاها تيري كوبرز متجولاً في السجون الأميركية، حيث يعترف بأنه اكتشف عدداً كبيراً من الوفيات التي حدثت خلال ساعات أو أيام الحبس. وتضمنت الأسباب الموضحة لهذه الوفيات الانتحار، وإصابات الرأس أثناء إلقاء القبض على السجين، وجرعات المخدرات الزائدة، والأزمات القلبية، وأزمات السكَّر. وتوصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أنه في جميع الحالات تقريباً، كان من الممكن تفادي الوفاة لو خضع السجناء للفحص الملائم عند دخولهم السجن للمرة الأولى!

أما المعالجون داخل السجون، فليس أمامهم الكثير الذي يمكنهم فعله للجميع، وهم يركزون علاجهم على فئة قليلة من المرضى. ويعاني الكثير من المعالجين من الإنهاك، فيتخلى بعضهم عن العمل داخل المؤسسات العقابية، ويصاب بعضهم باللامبالاة تجاه ما يعاني منه السجناء!

وأحياناً يأمر الحرّاس برد فعل عقابي شديد بسبب خرق المرضى المضطربين نفسياً للقواعد، وهنا يتوقف المعالجون عن الاعتراض ويبدأون في اتباع توجيهات الحرّاس دون تفكير، وعادة ما يغضون الطرف عن التصرفات الأمنية الخشنة المضادة للعلاج النفسي.

الأمن أولاً
في السجن، يكون الأمنُ مُقدَّماً على العلاج. وفي حالات الخطر، يكون لضباط الأمن السلطة على جميع جوانب الرعاية داخل المؤسسة العقابية. ويعني ذلك مشكلات خطيرة للمضطربين عقليّاً. على سبيل المثال، في العديد من السجون ذات الإجراءات الأمنية المشددة، وعند وقوع أي أحداث عنف في ساحة السجن، يصيح الحراس المسلحون الموجودون في الأبراج أو على أسطح المباني: "انبطحوا"، حيث يطلق الحراس الرصاص على أي سجين لا ينبطح أرضاً.

العديد من السجناء، الذين يحصلون على أدوية ذات تأثير نفسي، يكونون غير قادرين على التفاعل مع الأمر في حينه بسبب البطء في ردود أفعالهم، سواء أكان بسبب المرض أم الأدوية التي يحصلون عليها. يقول المؤلف: "قرأت العديد من التقارير عن سجناء كانوا يحصلون على أدوية مضادة للذهان وأُطلِقَ عليهم الرصاص، بل وقُتِلوا أيضاً، في مثل هذه الأحداث"!

وهكذا يركز المؤلف على الظروف التي تجعل حياة السجناء عموماً في حالة من البؤس الشديد، وتجعل حياة السجناء المضطربين عقليّاً لا تُحتمَل، وعلى الآثار النفسية للعنصرية في المؤسسات العقابية، حيث يمثل الملونون الأغلبية بين السجناء، والحقيقة البشعة للاغتصاب الذي يحدث داخل السجون وآثاره النفسية.

كما يتناول سبل الحد من معاناة السجناء، وتعزيز السلامة العامة؛ فيلقي الضوء بالتفصيل على أهمية الزيارات الجيدة للأحباء، كي يتمكن السجين من قضاء مدة عقوبته في سلام، ويحتفظ بصحته العقلية، وينجح في الاستقامة في حياته بعد إطلاق سراحه، ويحد من المأساة المتكررة للانتحار. إضافة لبعض التوصيات القانونية والمقترحات الإجرائية، ومتطلبات البرامج الناجحة لإعادة التأهيل وعلاج الأمراض العقلية.

والخلاصة، كما يقول د. كوبرز، أنه إذا لم تتخذ إجراءات حاسمة في الحال للقضاء على أزمة الصحة العقلية خلف القضبان، فسوف تتعرض السلامة العامة للخطر في السنوات القادمة.

وسيستمر خروج سجناء ناقمين على المجتمع، ونسبة كبيرة منهم تعاني من اضطرابات انفعالية خطيرة، وغير مستعدة لأن تحيا حياة قويمة وتسهم بفعالية في الحياة المجتمعية، وسيعود الكثيرون منهم إلى حياة الجريمة. لكننا إذا توقفنا عن إنكار المشكلة، وفتحنا أعيننا على حماقة السياسات الحالية المطبّقة في المؤسسات العقابية، فسوف تتسنى لنا فرصة تغيير أسلوب تعاملنا مع الجريمة تغييراً جذرياً والقيام بمحاولات جادة لإصلاح نظام العدالة الجنائية.

(كاتب مصري)

المساهمون