أناشيد إزرا باوند: الشعر في مواجهة الزّيف

أناشيد إزرا باوند: الشعر في مواجهة الزّيف

13 سبتمبر 2015
الشاعر الأميركي إزرا باوند عام 1969 (Getty)
+ الخط -
خارج مقطع صغير ترجمه يوسف الخال، وآخر عرَّبَه السياب، وبضع قصائد نشرها صبحي حديدي في (أخبار الأدب) في التسعينيات، لم يتصدّ أحدٌ لترجمة الشاعر الأميركي إزرا باوند إلى لغة الضّاد. وكأنّ الحداثة الشعرية العربية يمكنها أن تشقّ طريقها بثبات، دونما حاجة إلى مرجعيات أساسية مثل تلك التي يمثلها باوند في الشعر الحديث. ولعلّ من أعطاب الحداثة الشعرية في بلادنا العربية هذا الإصرار على الذهاب بها إلى حدودها القصوى، دونما حاجة إلى تأطير الممارسة الشعرية فكريا ومعرفيا، بل دونما حاجة إلى قراءة الآخرين الذين اقترحوا علينا المسالك التي ورَّطَنا فيها شغفنا المشروع بالجديد المدهش. فنحن لا نجتهد كثيرا لكي نسند الشغف بالمعرفة.

صدور ترجمة المغربي حسن حلمي لمختارات من أناشيد إزرا باوند عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، العام الماضي، جعلني أفكّر في أن شعراء العربية قد "توفّقوا" في قطع أشواط مهمّة على درب التحديث الشعري، دونما حاجة منهم إلى باوند. طوبى لهم إذن. أمّا أنا فلا يسعني إلا أن أهتف مع صاحب "الأناشيد": "فيا عيّار الأصباغ، يا مراقب المُطرّزات والألوان/ تأكّد من بياض الأبيض، ومن سواد الأسود/ ومن خضرة الأخضر: تأكّد من جودة الألوان/ ولا تُجِز الألوان الزّائفة".

كان باوند يكره الزّيف. يمتدح قيم التراث الحيّ المستند إلى الصدق والإنصاف، وإلى تحقّق الطّاقة الخلّاقة، في مقابل الزّيف والاستغلال والعقم. كان يرى أن على المرء أن يتّقي بلادة الدهماء. فالطّاقة الخلّاقة تبني المدن، وقوى الظلام تدمّرها. لذلك قاوم قوى الظلام وانحاز منذ البداية إلى التجديد رافعا شعاره الشهير (جَدِّد. جَدِّد كلَّ يوم. جَدِّد يوماً بعد يوم). هكذا تزعّم باوند عن جدارة أغلب حركات التحديث المعاصرة له في الشعر والفن، بدون أن ننسى الدعم الكبير الذي قدّمه لكلٍّ من إليوت وجيمس جويس. ولم يكن عبثا أن أهداه إليوت قصيدته الأشهر (الأرض اليباب)، خصوصا إذا علمنا أن باوند كان قد اشتغل على هذه القصيدة بالتنقيح والإضافة والتحرير، بل وأخضع (الأرض اليباب) إلى حمية صارمة خلّصَتْها من نصف وزنها وجعلتها تبدو أشدّ سلاسة وأكثف تعبيراً. لذلك أطلق عليه إليوت لقب (الصائغ الأمهر)، ولذلك أيضا يسمي عدد من مؤرخي الأدب، وعلى رأسهم هيو كنر، تلك الحقبة من تاريخ الأدب (حقبة باوند).

وإلى جانب رؤاه الشعرية والنقدية، كان باوند مهووسا أيضًا بالمسألة المالية. حيث كان يعتبر الرّبا ضد الطبيعة مادام يقوم على العقم لا الإنتاج. هكذا خلص باوند مثلا إلى أن الحرب العالمية الثانية لم تندلع إرضاء لنزوات هتلر وموسوليني فحسب، وإنّما بسبب جشع المرابين. فهي فصل من مأساة بدأت بتأسيس بنك إنجلترا في 1694. لذلك لم يتردد باوند في هجو المرابين في "الأناشيد"، بل سيُفاجأ قارئ هذا الديوان وهو يكتشف أن المسألة الاقتصادية تحضر فيه، باعتبارها موضوعا شعريا إلى جانب التاريخ والأساطير والسياسة والفلسفة واللاهوت، وذلك في ملحمة يتجاور داخلها البناء السردي مع الحساسية الرومانسية والتكثيف الرمزي، وتتزامن فيها الأنغام المختلفة.

أيضا تبنّى باوند مواقف معادية لسياسات أميركا والحلفاء. فكان أن اتُّهِم بتأييد الفاشية وحوكم بتهمة الخيانة العظمى، قبل أن يودَع مصحّة للأمراض العقلية لمدة اثنتي عشرة سنة.

ترجمة حسن حلمي لأناشيد باوند ستمكّن الكثيرين من اكتشاف شاعر استثنائي لم يحرمه لا السجن ولا مستشفى الأمراض العقلية من السّكينة وصفاء الذهن اللذين يحتاجهما الشعراء لكي يقولوا ما لا يستطيعه الآخرون: "الماء يمتدّ أمامي/ والأشجار تنمو في الماء/ الجذوع الرّخامية تتجلّى من السكينة".

(كاتب وشاعر مغربي)

المساهمون