الصلحاء: مدونات الإسلام المغاربي خلال القرن التاسع عشر

الصلحاء: مدونات الإسلام المغاربي خلال القرن التاسع عشر

24 يوليو 2015
(الدار البيضاء: دار أفريقيا الشرق، 2014)
+ الخط -
تردد الباحث الفرنسي الأنثربولوجي وأستاذ الآداب بتلمسان الجزائرية إدموند دوتي ما بين عامي 1906-1907 مرات عدة على المغرب بتكليف من الحكومة الفرنسية، لدراسة المناطق التي لم تتصل بعد بالحداثة الأوروبية، وإعدادها للاندماج في دائرة التأثير الفرنسي.

وتنقل دوتي ما بين الجزائر والمغرب وحتى تونس، محملا بالفكر الكولونيالي، ومتمكنا من الدارجة الجزائرية، ومن أدوات البحث العلمي الأنثربولوجي والسوسيولوجي لإعادة قراءة الظواهر الدينية والصوفية في مغرب القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

أسفرت هذه الرحلات عن مقال مهم نشره في عددين متتاليين بمجلة "تاريخ الأديان" في 1901 بعنوان "الصلحاء: مدونات عن الإسلام المغاربي خلال القرن التاسع عشر"، والذي بقي قيد اللغة الفرنسية منذ ذلك الوقت حتى ترجم للعربية عام 2014.

يتناول دوتي فكرة مفادها أن الدين الإسلامي يتأصل بأذهان الناس لأنه "دين بسيط". دين ينفي قطعا الوسيط بين الإله والعبد: "ديانة توحيدية، قارّة، وباردة جدا" تكفيها تلفظ الشهادة فقط. ولكن القباب البيضاء للأضرحة التي تملأ جنبات الطرق بين الجزائر والمغرب وزيارة الناس لها والبحث في إشكاليتها جعلت دوتي يقوم برحلته من أجل دراستها وفهمها في متخيل العامة بالمغرب العربي الكبير (الممتد من المغرب حتى مصر)، مستشهدا بأمثلة من المغرب تحديدا ومقارنا إياه بفضاءات الجزائر وتونس المشابهة، ومعتمدا على المعطيات حول الدين الإسلامي التي وفرها أساتذته من قبله أمثال مولييراس ولامارتينيير ولاكروا.

مُستندا إلى المصادر العربية والأجنبية التي توفر عليها رفقة الشهادات التي استحضرها من زاوية دينية-تاريخية وروايات شفوية وملاحظات، وجد دوتي أن ممارسات المسلمين ورغم بساطة الدين ذاته لم تكف يوما عن تقديس الأشخاص منذ زمن النبي. فقد وُجد أولياء في دائرة التقديس وانشغل الناس بهم عن الدعوة للتوحيد بالله، وكان ابن تومرت واحدا منهم بعدما انصاع إلى لعب دور المهدي. وقد تتبع دوتي بدوره مسارات هذا التقديس وتحولاته منذ العصر الوسيط (القرن السادس عشر) وتمظهره على شكل طقوس جماعية طلبا للتبرك والشفاعة.

طقوس انصاعت لها العقيدة الإسلامية وأخذت مكانتها في الاعتقاد وحتى في الممارسة بشكل لا نزال نشهده حتى يومنا هذا. عزا دوتي الأمر لعدة شروحات، منها الوجود البربري الغالب وفتور هؤلاء في التعامل مع الإسلام إضافة إلى جهلهم بمفهوم الشفاعة. كما ركن إلى تفسير آخر هو ذوبان بعض معتقدات الديانات البوذية واليهودية والمسيحية بأخرى إسلامية، إضافة إلى انتشار السحر والشعوذة في تلك المناطق قبل مجيء المسلمين. إلّا أن تفسيرا وجد فيه راحته يرجح فيه أن أصل زيارة الصلحاء هو المخيال الجمعي للناس الذي يجعلهم يتخيلون الله كما يشتهون، وهي زيارة "انتقام القلب والهوى من تجريد الوحدانية". ولاحظ دوتي أن الزيارة "تكونت في إطار فئة اجتماعية مستقلة، وقد تحولت إلى ممارسة تيوقراطية حقيقية وشكلت اتحاديات واسعة" وظل بعضها ذا طابع محلي مستقل.

يرى دوتي أن العديد من الصلحاء تمتعوا بميزات عدة، ولعبوا أدوارا في التنظيم الاجتماعي والإصلاح بين القبائل المتنازعة ونشر التسامح بينها. فقد كان الصلحاء معفيين من الضرائب والأشغال الشاقة ولم يشاركوا في الحروب إلّا نادرا، وكانوا يتلقون الهدايا والقرابين والمنح السلطانية، كما حظوا بتصنيفات اجتماعية وفق مسميات عدة، مثل "الشريف"، "لّالّا"، "دادا"، "مولاي"، "الفقيه"، "البهلول"، "المجذوب". فـ "مولاي"، ليس هو "الشريف"، و"الصالح" ليست مرادفة تماما لكلمة "شريف"، فعدّة صلحاء بدون شجرة نسب، وليسوا شرفاء بالمعنى الديني. سياسيا، استطاعت الدولة الاستعانة بالصلحاء لتثبيت شرعيتها، في وقت لم يطبق كثير منهم قوانين السلطان إلّا نادرا وكان بإمكانهم إشعال الثورات ضدهم وضد الاستعمار الفرنسي. إذ تحولت الزوايا والأضرحة إلى منافس سياسي بحت في فترة من الفترات.

تحدث دوتي عن دور الصلحاء في صناعة الأحداث السياسية وفسح المجال لقيام دول على أساس ديني مثل دولة المرابطين. ورغم الخطاب الفقهي المناوئ لها ولطقوسها، إلّا أن سيرورتها مستمرة بذات الوتيرة تقريبا، فالسلطات الرسمية المغربية لم تمنعها يوما، بل نشطت منذ ستينيات القرن الماضي، وتخضع حاليا لوصاية وزارة الأوقاف، وتقدم لها المعونات المالية والمعنوية، وتنظم مواسم سنوية تستقطب إليها آلاف الزوار مثل موسم مولاي عبد السلام بن مشيش الأكثر شهرة بالمغرب، يؤازرها دائما تغطية إعلامية كبيرة.

وبنظرته الشمولية لدراسة هذه الظاهرة، لم يهمش دوتي النساء الصالحات ممن لعبن دورا كبيرا في التجمعات الدينية، منهن الصالحة لّالّا عائشة المنوبية المولدة بتونس، ولّالّا فاطمة أشهر صالحة "لقبايل" وزعيمة المقاومة لأهل جبل جرجورة سنة 1857.

يستخلص دوتي صاحب "السحر والدين في إفريقيا الشمالية" أن هذه "المجازفة" التي قام بها ما هي إلا دراسة تحتاج لخلاصات منطقية أساسها البحث في تفاصيل الطقوس المعاصرة وفي دلالتها للحصول على أفكار صحيحة عن علاقة الصلاح بالصوفية، حيث وفي زمنه لم يكتب تاريخ زيارة الصلحاء في المغرب الكبير قبل القرن السادس عشر الميلادي.

(كاتبة فلسطينية)

المساهمون