أنا و"الطلياني" والرواية البكر

أنا و"الطلياني" والرواية البكر

14 يونيو 2015
الحائز على جائزة الرواية العربية "البوكر" لعام 2015
+ الخط -
حين شكرتُ لجنة تحكيم الجائزة العالميّة للرواية العربيّة على تتويج "الطلياني" في دورة هذه السنة (2015) أكّدت أنّ هذا التتويج سيدخل بعض البهجة والغبطة على أبناء شعبي الذي لا يسمع منذ سنوات إلاّ أخبار النكد والكدر. وكان حدسي صائباً.

إذ تكفي إطلالة على الشبكات الاجتماعيّة للتأكّد من طوفان المحبّة الغامرة ومشاعر الانشراح والانتشاء بتتويج تونسيّ في زمن الخيبات الموجعة والأحلام المجهضة. ولأوّل مرّة، على ما أعلم، يستقبل أديب تونسي في مطار تونس قرطاج استقبال نجوم الفنّ وكرة القدم، فنكتشف أنّ لبعض التونسييّن حاجة إلى رموز ثقافيّة وأدبيّة وحاجة أكبر إلى الفرح والأمل.

ويعلم المقرّبون منّى أنّني حييّ بالطبع أكره الأضواء ولا أذهب إلى التلفزيونات إلاّ مكرها. فإذا بي أجد نفسي مباشرة في نشرة الأنباء الرئيسيّة للقناة الوطنيّة في الثامنة مساء أمام مليوني مشاهد! ومن اليوم التالي، انثالت عليّ التهاني من الناس العاديّين، ممّن قرأوا الرواية وممّن لم يقرأوها، في الحيّ وفي الشارع وفي المغازات وفي العمل بفضل رواية بكر، رغم ما يحفل به رصيدي البحثيّ من كتب ودراسات منشورة قبل الرواية. هكذا بصدفة صنعها السياق التاريخيّ يصبح للأدب في بلادي "نجم" و"بطل وطنيّ"!

ولئن وشّحت وزارة الثقافة صدور الكثيرين قبلي بالوسام الوطنيّ للاستحقاق، وقد تسلّمته من يدي وزيرة هي امراة مثقّفة مناضلة من التونسيّات الرائعات اللاّتي أهديت لهنّ البوكر، فإنّني لا أذكر أنّ رئيساً للجمهوريّة في تونس قد كرّم من قبل رجل أدب لم ينتم إلى المؤسّسة الرسميّة وأحزابها السياسيّة في بلد رُوي عن زعيمه الذي بنى دولته المستقلّة، محمولاً ربّما بهاجس التحديث العلمي والتكنولوجي، ما مفاده "يزّي (كفانا) من القصّة والأقصوصة"! فيا الله كيف تكذّب الوقائعُ الزعيمَ المؤسّس الذي يحفظ الشعر الفرنسيّ عن ظهر قلب لتستحيل "القصّة" باعثاً للحماسة الوطنيّة.

دعك من أفاويح الانتقاد والغيرة والحسد والنزعات القطريّة الضيّقة التي تقسّم مدينة الرواية العربيّة إلى مركز وهامش. إنّها أفاويح لا تخلو منها موائد الجوائز الأدبيّة: "رواية فاشلة فنيّاً"، "رواية مليئة بتفاصيل وزوائد لا تخدم السرد"، "الراوي في الطلياني غير مقنع"، " لم أتمّ قراءة الرواية إلاّ بشق الأنفس"، "رواية كلاسيكيّة تجاوزها السرد العربيّ" ..إلخ ..إلخ. شكراً للجميع. أخذنا علماً. فأنتم أو لجنة تحكيم البوكر لعلى هدى أو في ضلال مبين.

وعلى قدر امتناني وعرفاني للجنة تحكيم البوكر ومجلس أمنائها، وهم بجنسيّاتهم المختلفة يمثّلون قوس قزح الثقافة العربيّة، فإنّني فخور بأمور أبسط من النجوميّة. أنا معتزّ بأنّ "الطلياني" صالحت، في تونس على الأقلّ، شباباً خلت أنّهم تطبّعوا بثقافة "فاست فود" الشبكات الاجتماعيّة مع الرواية، ومعتزّ بإخوة لنا في تونس من الفرنكوفونيّين صالحتهم "الطلياني" مع الرواية التونسيّة المكتوبة بالعربيّة بقدر ما صالحت كثيراً من القرّاء النوعيّين مع الأدب الروائيّ عامّة والتونسيّ على وجه الخصوص.

وقد بلغ تعرّف لفيف من القرّاء التونسيّين على أنفسهم في شخصيّتي عبد الناصر الطلياني وزينة درجة لم تخطر لي على بال. فهذه فتاة تصرّ على أنّ "حبيبها الطلياني" موجود وعليّ أن أدلّها على مكانه. وحين أؤكّد لها صادقاً أنّه مصنوع من مداد وورق تجهش بالبكاء.

وأخرى تتنازل عن "حقّها" في أن أقدّم لها الطلياني مكتفية، عن مضض، بأن ترسل معي إليه باقة زهور. وحين أبتسم أمام إصرار الواقعات في غرام هذه الشخصيّة الفاتنة، رغم انكساراتها وخيباتها، لا يجدن من سبيل لدفعي إلى الإقرار بوجوده إلاّ "اتّهامي"، في شراسة محبّبة يائسة، بأنّني كتبت سيرتي الذاتيّة. والأغرب أنّ بعض الشبّان، وحتّى الكهول، لم يتورّعوا عن لومي بل تقريعي لأنّني لم أرحم زينة "الرائعة" فحطّمت المثال الذي تجسّده. عندها لا أجد، تطييباً لخواطرهم، إلاّ تذكيرهم بأنّ منطق السرد في الرواية لا يحتمل إلاّ أن تنتهي مجنونة أو منتحرة إلاّ أنّني أشفقت عليها فأنقذتها بالهجرة إلى فرنسا من مجتمع محافظ مدمّر للذكاء.

فما أعجب الكلمات إذ تخرج الكائنات المتخيّلة من دفّتي الكتاب إلى الواقع!

المساهمون