العَيْطة: الهُويّة الموسيقيّة للمغرب

العَيْطة: الهُويّة الموسيقيّة للمغرب

12 مايو 2015
(دار توبقال، المغرب، 2007)
+ الخط -
"يِعَيّطْ"، "بَعيطلك"، "العيطة"، كلمات تربط الإنسان العربي بهويته الشامية أو الشماليّ أفريقي، وتحديداً المغرب، وتندرج تحت مظلة اللهجة المحكية، أو الدارجة. أما الفعل عيّط عليه بالفصحى فيحيلنا إلى معنى صرخ عليه أو بكى عليه، أمّا عيّط فجأة يعني صرخ فجأة. من هنا تأخذ "العطية" في المغرب بُعداً صوتياً تطور إلى موسيقى تقليدية قائمة على الشعر الشفوي البدوي ينتشر من أقصى جنوب المغرب وصولاً إلى "العيطة الجبلية" في الشمال.

تدخل "العَيْطَة" ضمن علم موسيقى الشعوب لعلاقتها الحتمية "بمجموع الممارسات والمعارف لمجتمعها "المحافظ" أو "المنغلق" أو المهمّش"، كما يورد الكاتب والباحث المغربي حسن نجمي في كتابه المؤلف من جزأين "غناء العيطة: الشعر والموسيقى التقليدية في المغرب".

في مدخله العام، يستهلّ الباحث عن سبب وضع العيطة في ظل التاريخ وتهميشها من التوثيق والدراسة رغم أنها موسيقى وأداة كانت تصدر عن مجتمع قروي قَبَلي، "لماذا لم يكنْ للقبيلة لسان؟"، ولأجل ذلك المشوار الاستقصائي والتحقيبي، قام نجمي باختبار الفرضية القائلة بأن هناك علاقة ما تربط بين بدايات تعبير "العيطة" ودخول القبائل العربية إلى المغرب.

الصنارة التي أنقذت العيطة تمثلت بـ"العلاقة البنيوية بين القول الشعري في العيطة والنسق اللحني الإيقاعي الذي يلازمها بقيت تراثاً شعرياً موسيقياً غنائياً شفوياً، وتتجلى شفويتها في كونها خلقت تعبيراً عن: "ذوات الفلاحين والقرويين والرعاة أصحاب الذاكرة العميقة وشجن الأحباء الغائبين"، وفق نجمي.

بقراءة الخارطة التاريخية التي رسمها لنا الباحث، نتتبّع أثر "العَيْطة" بانطلاقها في عهد الدولة المرابطية. حيث أتاحت فضاءات الفرجة والموسيقى والضحك والخروج المنظم للنزهات في الأعياد وعاشوراء وعيد العصير كما كان متاحاً في العدوة الأخرى الأندلس، ولم ير أمراء المرابطية بأن المتاجرة في الآلآت الموسيقية مسّاً بالأخلاق العامة، ما يعكس حالة من السيرورة والتطور في المجتمع. ورغم التضييقات التي أصدرتها الدولة، كرسالة الفصول التي تحرّم بصرامة اللهو والموسيقى غير الطبل، إلّا أن ذلك لم يكن ممكناً بوقت ارتبطت فيه الموسيقى وجدانياً بالناس، واتساع الإمبراطورية وصعوبة تنفيذ قراراتها.

كذلك الأمر وجدناه في دولة الموحدين المتداخلة زمنياً مع المرابطين، وفق بعض المؤرخين؛ يتمثل بالفقيه ابن تومرت الذي مشى بشوارع المرابطية داعياً لحرق المنكرات من الآلات الموسيقية، لتحقيق غايته بمنصب سياسي والذي لم ينله من المرابطين. اندفع ابن تومرت بصناعة الأمير عبد المومن بن علي الكومي (العربي) ليكون أميراً لبلاد الموحدين، حيث يشكل الأمازيغ أغلبية عظمى للسكان، فاستقدم القبائل العربية للاستئناس بهم، وعندما بدأت ملامح الدولة بالتشكل بداية القرن الثاني عشر للميلاد، تزامن معها شيوع لون جديد من الأغاني العربية في البوادي نقله معهم العرب الوافدون من قبائل دياب وعوف وزغبة وبطون هلال، وجاء في ألحان بسيطة لا تخضع لطريقة صناعة موسيقية معينة، وكان يسمى هذا اللون "الحوراني" نسبة إلى حوران، جنوب دمشق، حيث كان موطن بني غسان. ثم نشأت في الحواضر المغربية أغان جديدة لتلحين الشعر الشعبي، وتنوعت إلى أن استقرت إلى نوعين "الكريحة" و"العيطة".

يشرح نجمي بأن "العَيْطة" عانت مجدداً من التشابك الذي يأخذها مرة للغناء ومرة لرثاء الميت وندبه، ومع توسّع مظاهر الحياة كالأعراس المختلطة بحضور النساء لسماع الرجال وجلب المغنيات الأجنبيات، صنفت مرة أخرى في دائرة المنكر خصوصاً بعد ارتباطها بالبغاء وشرب الخمر، فحاربها الفقهاء ورجال الدين. ولكن تعود وتنتعش مرة أخرى في عهد الدولة العلوية بقيادة السلطان سيدي حسن، حيث أصحبت لا تقل مكانة عن "الملحون" أو الزجل في القرن التاسع عشر للميلاد.

ارتبطت العيطة بالظاهرة القايدية والقُيّاد في مرحلة الاستعمار الفرنسي، والذين استضافوا الأشياخ والشيخات في قصباتهم للمحافظة على الأبهة السلطانية، كالقايد عيسى بن عمر العبدي الذي عرف عنه بالرواية الشفوية لملاحقته الشيخة حويدة التي مثلت انتفاضة قبيلتها "أولاد زيد" والتخلص منها. وكانت العيطة تُتشرب في الفضاء السياسي أكثر من الاجتماعي كأداة للتحريض والتعبئة. مع الاستعمار الفرنسي بدأ مسار العيطة الشفوي والأداء البصري يتغيّران بعدما أخضع غناء العيطة لآلة التسجيل. منها اختزال القصائد الطوال وتسجيلها بدون مطالعها، وتسجيل "العيوط" نفسها بعناوين مختلفة. وبوجود الاستعمار انغلقت النخبة المغربية ببناء أخلاقيات هشّة حولها، والوقوف ضدّ العيطة من قبل المخزن أيضاً، ولكن فرقاً موسيقية مغربية صارت عالمية أعادتها للواجهة مثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة"، وينادي بها صوت الحاجة الحمداوية والحاجة حليمة ولطيفة آمال، وآخرين.

(كاتبة وصحافية فلسطينية)

دلالات

المساهمون