أشرف فيّاض.. التمرد والحرية

أشرف فيّاض.. التمرد والحرية

16 ديسمبر 2015
(أشرف فيّاض في تصميم لـ رشيد وحتي / المغرب)
+ الخط -

للشعر عوالمه التي تظل علاقتها بالواقع ملتبسة، كما هي علاقة الواقع مع كل من الحلم والخيال وحتى الجنون. ففي الشعر لا مجال للحديث بعقلانية، ولا مجال للتفسيرات العلمية، ولا للتأويلات الدينية أو الفلسفية، حيث خيال الشاعر وأحلامه هي التي تصوغ رؤيته للعالم. فرؤية الشاعر تقوم أساسًا على حلمه بحياة أجمل وأفضل، لذا فهي تسعى إلى "الهدم" من أجل "إعادة البناء"، وعلى أسس جديدة مركزها ثلاثيّة "الحبّ والخير والجمال".


ومن هنا، من هذه الأسس للبناء، التي تعتمد الحبّ والحريّة والتمرّد وهموم الوطن والإنسان، من جهة، والاستغلال والقهر والقمع والكبت، من جهة مقابلة، وهي أبرز الثيمات التي تشغل الحيز الأساس في ديوان الفلسطيني أشرف فيّاض "التعليمات بالدّاخل".. من هنا، تنطلق شاعرية أشرف و"شِعريّته"، كما تظهران في قصائد هذا الديوان، من رؤية جديدة إلى العالم بمكوّناته، بدءًا من الكائنات الحيّة، البشر والشجر والطبيعة عمومًا، وصولًا إلى أحدث منتجات العلم والتقنية، مرورًا بما تنطوي عليه هذه المكوّنات من علاقات، انبثاقًا من رؤية خارجة على المألوف والسائد، وربّما رؤية تسعى إلى "الخدش" حينا، والهدم حينا آخر، حيال صور الخراب والموت التي يشهدها العالم اليوم.

الديوان الصادر في دار الفارابي- بيروت (2007، 214 صفحة)، يضمّ عددا كبيرا من القطع متفاوتة الحجم، تتوزّع على عناوين رئيسة، في تجربة تبدأ بـ"حيّز من الفراغ"، وتنتهي بما يسمّيه "استنتاجات"، وما بينهما، يلتقط الشاعر خلالها (التجربة) صورا وتفاصيل من حياتنا، ومن خلال مشاهداته وانطباعاته من الحياة عموما، وما يعانيه الإنسان من الحروب وطغيان القيم المادية اللاإنسانية في مجمل الحياة السائدة، على مستوى الفرد والجماعات. لكن الشاعر يختار أسلوبه الخاص، البسيط والمباشر حينا، ضمن تقشّف شديد في البلاغة، والصور السرياليّة حينا آخر، للتعبير عن رؤيته النابعة من الألم أساسا للتجربة.

وانطلاقا من إنسانيته أوّلا، ومن فلسطينيّته أخيرا، يجوب الشاعر في حقول من "ألغام" الهوية الكونيّة. فمن منطلق إنسانيّته، يرسم لنا فيّاض صورا من التجاوز على إنسانية الإنسان وحريّته في العيش والتعبير. ومن منطلق فلسطينيته يستحضر صورا من الحنين إلى وطنه المفقود. وهو في الحالين ينطلق من حالة هي خارج التصنيفات الضيقة أو العنصرية، كما أنّها لا تنتمي إلا إلى الحياة في أرقى تجليّاتها، ولتعزيز المبادئ أو أخلاقيات البشر الطبيعية، في مواجهة "قوى الشرّ" التي تفسد الحياة البشرية والطبيعية.

الديوان الذي هو قيد المحاكمة، إلى حدود صدور حكم الإعدام بحق صاحبه في السعودية، هو محاولة لأن يقول ما يرى، والتفاصيل أكثر من أن يتم الإلمام بها، غير أن الرؤية الكلية والجوهرية لنصوص هذا الكتاب تتمركز حول رفض السائد بكل صوره، رفض صور الانتهاك التي تجتاح عالمنا، فمن صورة "الهواء ملوّث.. وحاويات القمامة كذلك/ وروحك منذ أن امتزجت بالكربون/ وقلبك منذ إغلاق الأوردة/ ورفضه منح الجنسية/ للدم العائد من رأسك"، ينقلنا كما لو بعين سينمائيّة إلى مشاهد من البؤس تحيل إلى ما أصاب روح الإنسان من انهيارات ونهايات مأساويّة للبشر.. حيث الإنسان لا "يملك ما يكفي ليواسيه أمام نوائب هذا الدهر"، وحيث "الماء لا يصلحُ لريّ الأزهار".

وفي محاولة للتغلغل في جذور هذه الرؤية المتشائمة، نقف مع أشرف وهو يعلن في ما يشبه اليأس، في نص بعنوان "عاشق مأجور"، نرى كيف يختزل حالة هذا الإنسان الفرد، فهو يختصر ويكثّف أحوال الفلسطينيّ خصوصا، والمنفيّين عموما حين يقول "تحت أنقاض الأيام المغموسة بالقسوة../ أشعر بدوارٍ من فرط الهذيان المتحلّق حولي/ أبحث عن وطن أعشقه أو يعشقني/ عن بيت يؤوي كل سبايا حرب لم تحمل أوزارا/ عن سقف غير سماء ملّتْ من أن تستر عورة تاريخي..". وحيث الإنسان يصرخ أيضا معلنا عن بدايات رؤيته هذه "منذ نعومة أفكاري/ وأنا أتمرّسُ أن أعشق../ لم أتوقف يوما عن تعليب القلب../ وحفظ الأشعار مبرّدة كي تبقى جاهزة للنظم إذا احتجت إليها".. فنحن هنا حيال عالم تهيمن عليه روح التصنيع والتعليب، الروح المنافية للحياة الطبيعية للإنسان.

ولاستكمال ملامح الصورة، نرى كيف يخرج من الوطن، ويعودُ إليه مرارا، وفي الأثناء نرى عزلة الكائن الشخص، وما يفعل المنفى بروحه، ونخلص إلى أن "الوطن المجهَدَ ما عاد ليتسع الآن لقلب أضحى كالفندق../ استيقظ وهم الرؤية في أخيلتي/ كانت تجربة زاخرة باللامعنى/ خطواتي تحملني نحو المبهم من طرق العزلة/ عن مجتمعات الشرف الأبديّ/ خانتني حتى خطواتي/ حملتني نحو المنفى الفرديّ بعيدا/ عن وطن لم أعرف أرصفة لموانئه/ علقت في أنفي رائحة الوطن..".

ومع ما يلحّ عليه من فكرة غياب الوطن، وتعدد صور هذا الغياب كما يقول "الوطن بعيد.. جدّا/ وليس لديّ وسيلة نقل تُرجعني.."، إلا أن الشاعر يلحّ أيضا على فكرة التغيير، وكيف يمكن أن يصنع من هذا البؤس والمنفى أملا أو حلما بتغيير نحو الأفضل، وذلك من خلال صورة رمزية محملة بالدلالات، إذ نراه يرجع "في إحدى نوبات الشوق الجامحة"، ليثير "قضايا الحيّ البائس"، كي يصنع "من أصوات كمنجات الشحّاذين نشيدا وطنيّا للعشّاق".

ثمة إذن هذا العزف على ثنائية الوطن/ المنفى، والوطن/ الغربة أو الاغتراب، سواء كان منفى إجباريا أم اختياريا، فرديا أم جماعيا، ففي ما يرى الشاعر ويعتقد في نص بعنوان "قوانين الوطن الثلاثة" أن "كل وطن آمن.. أو في حرب مستمرة.. يظل في القلب ما لم تؤثر عليه غربة من الذات"، هذا أولا، فيما ينص القانون الثاني على أن "الغربة المؤثرة في روح لا كتلة لها تتناسب طرديا مع هذيانك.. مع وهم الاستقرار.."، بينما يؤكد القانون الثالث أن "لكل فقدان وجود مفترض". وبهذه الثلاثية الجامعة، يتجسد الوطن في صورة من صور الاكتمال التي هي مثال للإنسان الطبيعي.

وعلى سبيل المزج بين الواقعيّ والحلميّ، ولكن بقدر من السخرية، نرى من الأعراض الناجمة عن الغربة والمنفى أنها تؤدي إلى "تضخّم في الهذيان/ إفراط في الأرق.."، ونرى الشاعر في رؤية أخيرة وهو يعلن بقدر عالٍ من التفاؤل "أتقن الهطول على حبّات الرمل/ لكي أصنع منها نُصبا للإنسان.."، وأن المطر اختاره أن يحيا "قلبا يتسع لشتّى أعراق الإنسان".

(كاتب وشاعر من الأردن)

اقرأ أيضا
في مسألة أشرف فياض


المساهمون