الانصراف عن القراءة... هل هو ظاهرة حقيقية؟

الانصراف عن القراءة... هل هو ظاهرة حقيقية؟

15 ديسمبر 2015
انحسار القراءة في المجتمعات العربية (Getty)
+ الخط -

منذ نحو ثلاثين سنة على الأقل ما برحت شكوى الناشرين والكُتّاب حائمة في سماء الثقافة العربية. وخلاصة هذه الشكوى هي انحسار القراءة في المجتمعات العربية، وتناقص انتشار الكتاب بين الأجيال الجديدة. ويلوح لي أن هذه الشكوى غير صحيحة تماماً. ولهذا لا بد من الاشتباك معها لاستكشاف الواقع الحقيقي للكتاب العربي الحزين في القرن الحادي والعشرين. وإخال أن القراءة لم تتراجع، بل إن ما يتراجع، سنة بعد سنة، هو أنماط القراءة القديمة، أي الكتاب الورقي والصحيفة الورقية، خصوصاً الكتب التي احتلت المكتبات طوال خمسين سنة كالكتب القومية والماركسية والثورية.

من المؤكد أن الكتاب العربي اليوم ليس في أحسن أحواله، غير أن المشكلة لا تكمن في الكتاب نفسه من حيث أهمية الموضوعات وجدّة المعالجة وصدقية الأفكار وطرافتها، بل في مكان آخر هو تحولات المجتمع وفئاته الوسطى ونُخبه الثقافية. فالنخب الجديدة التي ظهرت في مطلع القرن العشرين ناضلت في سبيل الوحدة القومية والعدالة الاجتماعية والدولة المعاصرة والديمقراطية، ثم من أجل فلسطين. وكان منشأ هذه النخب الطبقة الوسطى التي راحت تتسع بالتدريج مع اتساع التنمية والتعليم والعصرنة. لكن، في نهاية سبعينيات القرن العشرين، تبين أن سياسات التنمية خضعت لسوق النفط، فسُحقت الطبقة الوسطى، وتحول هرم السلطة إلى طبقة غنية جداً ومتغولة وتمتلك دولة وجيشاً، وطبقة فقيرة جداً وجدت ملاذها في التدين.

وجراء هذه التحولات اندثرت الأحزاب والمنتديات الأدبية والفكرية والصحف والنقابات التي كانت تشكل الميدان السياسي والفكري للطبقة الوسطى، واندثر معها مثقفوها الفاعلون، وبات المفكرون، في عصر العولمة، بلا أفكار، وتغلب أهل الثقة على أهل الخبرة والعلم. وفي هذا المضمار تغيرت أنماط القراءة جراء العولمة المتسارعة، من القراءة الورقية إلى القراءة الإلكترونية، وازداد نطاق القراءة بازدياد عدد السكان والجامعات ومراكز البحث. ومع ذلك، فإن حال القراءة في بلادنا العربية تثير الخجل قياساً على أحوالها في دول العالم.

تاريخ وأرقام
على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بين أوغاريت وجبيل، ظهرت أرقى أبجدية في العالم القديم. ومنذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، ابتدعت الحضارة السومرية في العراق الحروف المسمارية، ثم اخترعت الحضارة المصرية الكتابة الهيروغليفية. وبهذا المعنى، فإن أعظم حضارات العالم القديم قامت في مصر والشام والعراق. وهذه البلاد قدمت للإنسانية، فوق ذلك، الكتب الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية، أي التوراة والإنجيل والقرآن. لكن العرب، خلافاً لقاعدة التقدم إلى الأمام، لم ينشروا منذ ذروة حضارتهم في زمن الخليفة المأمون، أي منذ القرن التاسع ميلادي، حتى منتصف القرن العشرين، أكثر ما تنشره أوروبا اليوم في أقل من سنة. ولعل هذا الأمر يفسر بعض جوانب قلة حيلة العرب وهوانهم في هذا الزمن.

يشكل العرب اليوم 5% من سكان العالم تقريباً. لكن، ما هي حصتهم من الإنتاج المعرفي العالمي؟ لنتأمل قليلاً في بعض الأرقام: يضم العالم العربي قرابة 400 جامعة. وفي هذه الجامعات يعمل أكثر من 300 ألف أستاذ وأستاذ مساعد. حسناً، ما هو الإنتاج العلمي لهؤلاء الأساتذة ولهذه الجامعات؟ الجواب أن الترتيب العالمي لأفضل 500 جامعة لا يلحظ وجود أي جامعة عربية على الإطلاق.

إن أحد الأسباب الأكثر عمقاً لمشكلة القراءة في العالم العربي هو غياب المشاريع النهضوية الكبرى وانحسار دور الحركات السياسية الراديكالية. ففي إحدى الفترات، وبالتحديد في بدايات القرن العشرين، كان الفكر القومي العربي يدق الأبواب جميعاً، ويبشر بالخلاص من الجور التركي، ويعد العرب بدولة حرة متحدة ومنيعة. وفي هذا المضمار أينع الفكر القومي مؤلفات كثيرة. وعلى هذا الغرار امتلأت المكتبات العربية بمئات المؤلفات عن الاشتراكية وعن المساواة والعدالة الاجتماعية إبان حقبة صعود اليسار العربي في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. ثم جاءت أفكار التحرر الوطني مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في سنة 1965 لتطلق في سماء المنطقة العربية سجالات فكرية غنية وعميقة وذات تأثير ثقافي طاغٍ.

وهذه العناصر تجمعت كلها وتفاعلت لتجعل من الثقافة شأناً ضرورياً في الحياة اليومية، ولا سيما في سياق السجالات التي احتدمت بين التيار القومي بشقيه القومي العربي والقومي السوري، وبين التيار الشيوعي، علاوة على الجماعات الإسلامية المتناثرة. وفي معمعان هذه الحيوية كانت الطبقة الوسطى ترسخ حضورها القوي في الشأن السياسي، وتقود التحولات الاجتماعية التغييرية، أكانت هذه التحولات جارية في صلب النظام السياسي ومن داخله، أم في الميدان الأثير للمعارضة، أي الأحزاب والصحافة والنقابات. وكانت الثقافة والقراءة حلقة أساسية في خضم هذا الحراك السياسي والاجتماعي المتعدد المظاهر.

خلّف انحطاط الطبقة الوسطى العربية بسبب هزائمها المتكررة في قضايا التنمية والحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وفي مواجهة إسرائيل، علاوة على الحروب الأهلية التي اندلعت وما زالت مندلعة، اضطراباً اجتماعياً مروّعاً، وعمت الرثاثة المدن العربية الرئيسة كالقاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، وصعدت فئات اجتماعية جديدة ثرية وجشعة فسيطرت على شؤون السياسة والاقتصاد، وعلى حياة الناس وملاهيهم وحتى عباداتهم. وعلى هذه القاعدة نشأت أغاني الدهماء و"مطربي" الميكروباص والفتاوى التكفيرية وتيارات العنف السياسي، وتراجع الذوق الفني والكتابات الفكرية الجادة، وجرفت موجات الانحطاط أبناء الطبقة الوسطى المتهالكة.

في الجانب الآخر من الصورة ازدادت الطبقات الاجتماعية الجديدة والفاسدة التي تسيدت المجتمع بثرائها وفجورها، وقاحة وتوحشاً وشراسة، ولم تتورع عن مد مخالبها ونقودها إلى الثقافة والجامعات والصحافة لتفسدها بدورها. وعلى هذا المنوال وصل الفساد في الجامعات إلى ذرى لم تعرفها الحياة الأكاديمية العربية على الإطلاق كشراء الشهادات وأسئلة الامتحانات وسرقة البحوث العلمية والترفيع إلى درجات علمية أعلى بناء على الولاءات السياسية أو الدينية لا على أساس الكفاءة والخبرة والانتاج العلمي والفكري.

العقابيل المروِّعة
قصارى القول إن القراءة مرتبطة، إلى حد بعيد، بالتحولات السياسية والاجتماعية الحاسمة. فهزيمة 1967 أطلقت موجة من النقد الراديكالي لدى الجيل الذي ولد في معمعان النكبة الفلسطينية في سنة 1948، والذي كثيراً ما تطلع إلى تغيير الواقع السياسي ثأراً للكرامة العربية المغدورة. ثم وقعت هزيمة حزيران/يونيو 1967، فشكلت حافزاً مهماً للالتفات إلى قيمة العلم والمعرفة في الصراع العربي - الصهيوني. وتطلع المفكرون العرب آنذاك إلى انبعاث ثقافة جديدة من رماد الهزيمة؛ ثقافة نقدية ترسم حداً فاصلاً بين هزيمة الاستبداد وقيامة الحرية. لكن هذا الوعد أخفق، مرة ثانية، ولو موقتاً. نعم! لقد أخفق الوعد العظيم بالحرية والعدالة والمساواة الذي دشنته أفكار النهضة العربية منذ أكثر من مئة عام، والذي حمل مشعله جيل ما بعد نكبة فلسطين. وكان من نتائج هذا الإخفاق أن الجماعات الارهابية سجلت أولى انتصاراتها.

في بدايات القرن العشرين كان عدد سكان العالم العربي نحو 60 مليوناً، ولم يكن فيه إلا جامعتان هما: الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأميركية في بيروت لاحقاً) وجامعة القديس يوسف في بيروت أيضاً، ثم ظهرت تباعاً الجامعة السورية وجامعة فؤاد الأول (القاهرة في ما بعد). وكان الناشرون يطبعون ثلاثة آلاف نسخة من الكتاب الواحد. واليوم صار عدد سكان العالم العربي نحو 300 مليون وفيه نحو 400 جامعة، وما برح الكتاب الجيد يطبع ثلاثة آلاف نسخة، فإذا كان حظه من الانتشار جيداً طبع مرة ثانية. وفي مطلع القرن العشرين كانت المفردات التي تلهب خيال الشبان العرب هي: النهضة، التقدم، الحرية، الديمقراطية، الوحدة، الاستقلال، العلم، التنمية، الدستور، القانون، الدولة الحديثة، العدالة الاجتماعية، مقاومة الاستعمار... الخ. أما اليوم فقد عادت بعض المفاهيم إلى الانتعاش مثل: الحاكمية، الجاهلية، الهجرة، الكفار، الجهاد، الحلال والحرام... وغيرها، وعاودت أفكار التبديع والتفسيق والتكفير حيويتها ثانية. ويعكس هذا الأمر انحداراً مروِّعاً إلى الخلف، أي نحو إعادة الاعتبار إلى الفكر التكفيري الذي دشنه الأزارقة الخوارج منذ نحو 1400 عام، بدلاً من التقدم إلى الأمام. ومثلما قضى الإمام الغزالي (ت: 1111) وتلاميذه على المعتزلة الذين بذروا البذرة الأولى للعقلانية في الثقافة العربية، ها هم أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب وعبد الله عزام وتلاميذهم يقضون على المشروع الإصلاحي الديمقراطي الذي دعا إليه طه حسين وسلامة موسى وعبد الرحمن الكواكبي وفرنسيس المراش منذ نحو مئة سنة، الأمر الذي جعل حال الكتاب في العالم العربي اليوم مثل حال الأمة العربية نفسها: اضطراب واحتراب وبلبلة وهزال وغثيان.

(كاتب عربي مقيم في بيروت)

اقرأ أيضا
وداعاً... وتبقى الكتب
نقرأ الكتب... فنكتب الكتب

المساهمون