متنبي بغداد بين "درابين" الرشيد

متنبي بغداد بين "درابين" الرشيد

13 أكتوبر 2015
شارع المتنبي (العربي الجديد)
+ الخط -
ما إن تدخل إلى شارع الرشيد وسط بغداد، من جهة الباب المعظم، الذي كان يمثل ذات يوم أحد أهم شوارع العاصمة، وبعد مسافة ليست بالقصيرة تقطعها في شارع مستقيم قبل أن تتجه يميناً، تصل إلى ما يبدو للوهلة الأولى عالماً آخر، إذ ينبئك المكان بأنه مختلف عما سبقه من شوارع وحارات ضيقة، فترى الكتب المتناثرة على الأرصفة، وواجهات المحال التي تحتفي بالعشرات من العناوين. تسير وسط الزحام الذي يميز هذا المكان، وحالما تطل على جنبات الشارع الفرعية تجد مطابع ومكاتب كبيرة، معظمها قديم، تدرك حينها بأنك وصلت إلى أحد أشهر شوارع العالم العربي، شارع المتنبي.

كان هذا الشارع ومازال كما هو، لم تغيره السنوات وتقلبات الأحوال، ولم يفت في عضد رواده الخوف، ولم تخالج جنباته نوبة البكاء على اللبن المسكوب، هو كما كان، رئة بغداد التي تتنفس ثقافة وأدباً وعلماً، تصيح بين درابين (الأزقة الفرعية) الرشيد، الشارع الذي يحتضنه من قرون، باقٍ ما بقي الإنسان على هذه الأرض.

ربما لا تختلف كثيراً قصة شارع المتنبي ببغداد، عن قصة أي شارع متخصص ببيع الكتب في عواصم الدنيا المتنوعة، إلا أن ما يميز هذا الشارع أنه بات ظاهرة، تتجاوز قصة بيع الكتب التي اشتهر بها، وحولته إلى معلم بغدادي أصيل، إذ ناهز في شهرته شهرة الشارع الذي يحتضنه "الرشيد".

ما يميز هذا الشارع أيضاً أنه أضحى محركاً للأحداث، ليست الثقافية وحسب، وإنما حتى السياسية منها، ولعل في التظاهرات التي نظمها مثقفو ورواد الشارع خلال السنوات القليلة الماضية، شاهداً على ذلك، ناهيك عن دور رواده في التظاهرات الأسبوعية التي تشهدها العاصمة بغداد منذ قرابة الشهرين.

شارع واحد وبناة مختلفون
لم يكن للشارع اسم محدد، فمن شارع الوراقين إلى شارع حسن باشا إلى شارع المتنبي، تسميات عدة لذات الشارع، بقيت منها التسمية الأكثر شهرة والتي رافقته منذ العام 1932 حين أطلق الملك غازي، ملك العراق آنذاك عليه لقب "شارع المتنبي".

كذلك تختلف الروايات التي تعيدنا الى تاريخ نشأة هذا الشارع، إلا أن دراسات وتقارير عديدة ترجح بأن تاريخ بنائه يعود إلى العصر العباسي.

يحدثنا إبراهيم سعيد، صاحب مكتبة أطلس التي تقع في وسط الشارع، بأن المصادر أشارت إلى أن الشارع بُني في العصر العباسي (132-656) هجرية، إذ أنه كان يعرف باسم "شارع الوراقين"، والذي يدل من اسمه على أنه كان معنياً بالكتب وبيعها وأيضاً تجليدها آنذاك وبيع كافة مستلزمات الكتابة، ويضيف لـ"العربي الجديد": "غير أن هذه الرواية لم تثبت، رغم تتبع بعض المصادر التي أشارت إليها، إذ يُعرف أن أغلب شوارع بغداد خلال أيام العباسيين كانت تبيع الكتب، وإن كان هناك سوق للوراقين لا يعتقد أنه موجود بنفس مكان شارع المتنبي الحالي، بل من المرجح أنه قد يكون قريباً منه".

أما المؤرخ العراقي عماد عبد السلام، فيعيد تاريخ بناء الشارع إلى أواخر عهد العباسيين، إذ كان يطلق عليه آنذاك "درب زاخا"، حيث اشتهر منذ ذلك التاريخ ببيع الكتب، ثم ازدهر الشارع في عهد الوالي العثماني حسن باشا الذي فتح طريقاً من محلته، محلة حسن باشا باتجاه جامع السراي، حيث كانت تقع هناك مباني الحكومة ومنها القشلة وهو المعسكر الشتوي الذي بني في عهد الدولة العثمانية على ضفاف نهر دجلة عام 1852 وتحديداً في زمن الوالي مدحت باشا أشهر الولاة العثمانيين في بغداد. بينما تشير دراسات أخرى بأنه كان يُسمى "الأكمك خانة"، أي المخبز.

لم يكن شارع المتنبي يشمل كتباً ومكتبات ما عدا المكتبة العصرية التي كان صاحبها محمود حلمي قد أسسها في نهاية العقد الثالث وبدأ باستيراد الكتب من مصر وبلاد الشام. بل كانت معظم المكتبات الرئيسية موجودة ومتراصة في سوق السراي القريب من شارع الرشيد. حدث التحول الكبير في هذا الشارع الذي كان يضم بعض المطاعم والمخازن والمطابع عندما انتقلت مكتبة المثنى عام 1950 ثم انتقلت مكتبات أخرى مثل مكتبة المعارف والمكتبة الحيدرية وظهرت مكتبات جديدة ومتخصصة بالعلوم وبالتراث. ازدادت أهمية شارع المتنبي الثقافية تدريجياً فيما ضعف شأن سوق السراي الذي تحول لاحقاً إلى دكاكين لبيع المواد القرطاسية والكتب المدرسية القديمة.

عاصر الشارع حقباً مهمة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر، فمن التظاهرات التي كانت تنطلق أواسط القرن الماضي، تارة ضد الخطط الصهيونية لاحتلال فلسطين، الى تلك الرافضة لاتفاقية حلف بغداد، وصولاً إلى التظاهرات التي طافت الشارع خلال سنين ما بعد احتلال العراق عام 2003، كلها مظاهر تؤكد أن الشارع تجاوز دوره الثقافي ليكون فاعلاً في المشهد اليومي والحياتي، فتحول الشارع إلى مكان يعكس حالة المثقف العراقي وأثر الحصار عليه.

تحول في معالم الشارع
تغيرت ملامح الشارع على إثر السيارة المفخخة التي انفجرت عند مدخل الشارع عام 2007 والتي أتت على أجمل شيء في بغداد بحسب طارق الساعدي، مؤلف قصص أطفال، في حديثه لـ "العربي الجديد": "كان الوقت يقترب من ظهيرة ذلك اليوم، كنت أسير باتجاه الشارع، وقفت بجانب إحدى المكتبات، وما هي إلا أقل من دقيقة حتى وقع الانفجار".

يتذكر الساعدي تفاصيل ذلك اليوم بألم كبير، يقول "يومها فقط شعرت أن البلاد مهددة بالضياع، استهداف هذا الشارع كان كارثياً، حيث بقي مغلقاً لمدة شهر على ما أتذكر، قبل أن يعاد ترميم بعض أجزائه، لأول مرة يغلق الشارع، شعرنا وقتها أن بغداد، بل العراق كله كان مغلقاً، حيث لم يكن لنا ملجأ سوى هذا الشارع في بلد عصفت به الحروب".

استعاد الشارع حيويته سريعاً، وعاد أفضل مما كان عليه قبل الانفجار، كما يقول الساعدي "بل كانت إضافة تمثال المتنبي في نهاية الشارع مطلاً على نهر دجلة بمثابة لمسة فنية رائعة".

شارع المتنبي باقٍ
وكعادة كل شارع له تاريخ، فإن القصة لا تكتمل إلا بالمرور على أحد أشهر مقاهي شارع المتنبي، إنه مقهى "الشابندر"، أو "الشهداء" حالياً، وهو المقهى الذي يعود للحاج محمد الخشالي، الذي فقد خمسة من أبنائه في تفجير شارع المتنبي عام 2007. يتجاوز عمر المقهى 100 عام، كانت ملكيته في البداية عائدة للحاج محمود الشابندر، ولم يكن مقهى، وإنما كان مطبعة، في زمن انتشرت فيه المطابع بالعراق بكثرة. غير أن الشابندر، كما يقول الخشالي "قرر تغييره إلى مقهى، وأطلق عليه اسم مقهى الشابندر، قبل أن تتحول ملكيته لي".

الخشالي الذي يرابط في مقهاه يومياً، يعرف كل الوجوه التي تأتي إلى هذا الشارع، فهو لم يبرح بغداد ولا المتنبي رغم كل الظروف التي مرت بها. ويضيف لـ"العربي الجديد": "شارع المتبني باق ما بقيت بغداد، قد تتغير بعض المهن أو تتحول تبعاً للظرف والحالة، إلا أن شارع المتنبي يبقى رمزاً من رموز بغداد والعراق".

كذلك يروي مهند حسن العامري، وهو شاعر وكاتب قصة قصيرة، فصولاً من تاريخ الشارع، الذي تحول إلى مزار أسبوعي، يعرض فيه خيرة مثقفي وأدباء العراق كتبهم إبان فترة الحصار تسعينات القرن الماضي.

يقول العامري لـ "العربي الجديد: "ان شارع المتنبي لم يعد عنواناً للمثقف والمثقفين وحسب، وإنما تعدى الأمر ليشمل القراء العاديين، الذين باتوا يزورون الشارع كل يوم جمعة، وهذه ظاهرة آخذة بالاتساع خلال العامين الماضيين، حيث تأتي الكثير من العوائل مجتمعة، لمحاولة ترسيخ ثقافة القراءة لدى الأبناء، وهو أمر جيد".

تنتهي الجولة الثقافية في شارع المتنبي عند تمثال أبو الطيب، شاعر العرب، الذي ينتصب واقفاً على ضفة نهر دجلة، رافعاً يده ورأسه أيضاً، وكأنه يحاول إيقاظنا مجدداً ومرات عدة، وهو يردّد على مسمعنا.. وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ...

دلالات

المساهمون