معنى أن أكتب حياتي وأرويها

معنى أن أكتب حياتي وأرويها

11 أكتوبر 2015
Getty
+ الخط -
شرعتُ منذ عامين تقريباً، في كتابة جديدة، لم أعهدها، أروي فيها تجربتي الشخصية، السياسية والحزبية *. وكان عليّ، من أجل ذلك، أن أستعين بذاكراتي المحْضة.

صحيح أنني قبل ذلك، أثناء كتابتي البحث السوسيولوجي، أو المقال السياسي، كنت أحتاج إلى ذاكرتي؛ ولكن، فعل التذكّر، مع البحث والمقال، هو أبعد عن الشخصي؛ فوق أنه عمل ذهني ثانوي، قياساً إلى التحليل، والاستدلال والمقارنة، والاستنتاج، والمجادلة، والتفسير، والرصد، والموقف، في حال المقال، يُضاف إليها كلها الفرضية العلمية، في حال البحث.

أما في كتابة تجربتي الماضية هذه، فكان التذكّر فيها فعلاً أساسيّاً، محوريّاً، بل فعلاً يتوسل الأفعال الذهنية الأخرى. الأمر لم يكن هيّناً: فالتاريخ الذي أتلمّسه بعيد، عمره يقارب نصف القرن، ولم أكن واثقة أبداً من أنني سوف أتمكَّن من إعادة إحيائه. كانت مغامرة ذهنية جديدة، قررت خوضها، من دون أن أكون متأكدة من بلوغها شط الأمان، شط النص المكتوب. وعندما غصتُ في هذه المغامرة، نسيتُ الأمان، نسيتُ التعب، وصرتُ مشدودة إلى ذاكرتي بكل ما أملك من طاقة داخلية. وقد تبيّن لي، أثناء لحظات تعثر هذه المغامرة خصوصاً، أن التذكر فعل ذهني بامتياز، يعتمد على ملكات عقلية وروحية وعاطفية، إليك خلاصتها:

هناك أولاً مشغِّل الذاكرة: هي ترسّبات من الماضي، حيّة، ولكن نائمة، يوقظها وجه، أو مكان، أو إحساس، أو انطباع، أو مناخ، أو رائحة، أو كتاب، أو أغنية... هذه الومْضات، القريبة البعيدة، عائشة في داخلي، مثل حديقة خلفية، لم يصبْها اليباس طوال السنوات الأربعين التي رستْ خلالها. عندما كنتُ أستحضر هذه الومْضات، أستعيد مناخها، أو تلاوينها، أو نجومها، بغية الكتابة عن هذا الماضي، كانت ذاكرتي تنفتح، تتدفق عليّ مثل شلال هادر. وما كان عليّ لحظتها سوى الاستعجال لتسجيلها، كي لا أضيّعها، ثم تثبيتها كنقطة انطلاق لفصل من فصول ذاكرتي هذه.

لكن الومْضة ليست كافية، حتى لو بلغ بريقها سموات بعيدة. هي عتبة، مجرد عتبة لأبواب مغلقة، حافظة الذاكرة، وحاميتها ربما. وأنتَ واقف أمام باب من أبوابها، وتسأل ذاكرتك عن المزيد، عليكَ أن تتحلى بعقل المنقِّب عن الآثار، من دقة وخيال وتركيز... عليكَ أيضاً، مثله، أن تتزوّد بفرشاة صغيرة ليّنة، ومطرقة رقيقة، وتضرب بنعومة باب الذاكرة، حاملا معكَ وميضكَ إلى ما هو أوسع مجالاً، أدق تفصيلاً، أعمق تعبيراً.

وأثناء الحفر البطيء هذا، أكون شخصاً مزدوجاً: مع أن الذاكرة هي ذاكرتي أنا، ولكنني أشعر، وأنا أنقّب عنها، كأنني "آخر"، شخص آخر، غريب عن نفسي. وهذا الغريب يأخذ بيدي إلى أعماقي أنا، حيث يربض حدْسي. عندها، أعود فأجد نفسي. حدْسي هو نفسي، هو المحرّك الأقوى لذاكرتي، أو لوجهة ذاكرتي، هو ضميري المعرفي الصافي، الذي يظل يؤكد، أو ينفي، أو يمتحن، أو يعدّل، أو يرمِّم...

كل هذا يحتمل الاختلال، أو الفشل. تخونني الذاكرة، أحيانا. وأشعر بالخيانة عندما أشعر، في لحظة ما، أنني أسقطتُ حاضري على ماضيّ السحيق. وفي هذه الحالة أعود إلى الأرشيف، للتثبّت مما أتذكره، أو شطْبه، أو التدقيق في تفصيلة من تفاصيله.

ولكن، هذا لا يكفي، إذ كيف لي أن أعرف، على الرغم من إخضاع ذاكرتي لامتحان التاريخ الأرشيفي، أنّ لا خيط أيديولوجيّاً يجمع كل ما أسرده، أو نوعاً من المحاباة للنفس، أو الهوى السياسي، أو التحيّز لشخصيات أو النفور من غيرها...؟ وهل تكفي إجابتي على هذا السؤال، بأنني، في كل الأحوال، لا أفعل سوى إعادة فهم سنوات معينة من حياتي: كيف حصلت هكذا؟ ما الذي قرر مجراها؟ العصر، الإرادة، الحظ، القدر، الطبائع...؟ ولكنني، أقول أيضاً لنفسي بأن "خيانة الذاكرة" هي من اختراع المؤرخين، الذين ينشدون للموضوعية والحقائق. أما أنا، فأدّعي العكس تماماً: لستُ موضوعية مع ذاكرتي المحضة. لا أستطيع أن أكون.

*الجزء الأول من هذه التجربة قيد النشر الآن، وعنوانه "سنوات السعادة الثورية. 1969-1971". أما الجزء الثاني، وعنوانه "دفاتر الحرب. 1975-1990"، فهو قيد الكتابة.

(كاتبة وباحثة لبنانية)

المساهمون