حين صمتت الموهبة أمام الصلابة: البرتغال تُخضع إسبانيا بعقل تكتيكي وقدم ثابتة
استمع إلى الملخص
- برز نونو مينديز كنجم اللقاء بأداء متكامل دفاعًا وهجومًا، مسجلًا هدفًا حاسمًا، بينما عزز كريستيانو رونالدو رقمه القياسي بتسجيل هدفه رقم 138 مع المنتخب.
- تراجع أداء إسبانيا في الثلث الأخير بعد خروج لاعبيها الرئيسيين، واستغلت البرتغال هذا التراجع بمرونة تكتيكية لتحقيق الفوز.
في مباراة اتّسمت بالصرامة التكتيكية، وغلب عليها التوتر الذهني العالي، نجح منتخب البرتغال في فرض نفسه على أحد أكثر المنتخبات تنظيماً واستحواذاً في أوروبا، لكنّ ما ميّز هذه المواجهة لم يكن الأداء الجماعي للبرتغال فحسب، بل النضج الفني والصلابة العقلية، التي تجسدت في تفاصيل صغيرة صنعت الفارق في لحظات كبرى. لقد بدا أن المنتخب البرتغالي لم يأتِ ليلعب نهائيَّ بطولة فحسب، بل ليثبت أنه تعلم من كلّ درس سابق، وأنه أصبح يعرف تماماً كيف يُدير المباراة بواقعية دون التخلي عن طموحه.
ومنذ الدقائق الأولى، ظهر أن النهج البرتغالي لم يُصمّم لمجاراة المنتخب الإسباني في الاستحواذ، بل لتحييد مفاتيح لعبه وامتصاص ضغطه المستمر، عبر تمركز ذكي، وخطوط متقاربة، وغلق منافذ التمرير بين المحاور، وارتداد منظّم بمجرد فقدان الكرة، كل ذلك أعطى الانطباع بأن البرتغال كانت تلعب بخطة موجهة، فيها تفاصيل فردية محسوبة بدقة. ورغم الفوارق في نسب السيطرة على الكرة، فإنّ السيطرة الذهنية والزمانية على إيقاع المباراة كانت تميل نحو الجانب البرتغالي، خاصة مع كل دقيقة تمر.
وفي قلب هذا التنظيم الدفاعي المُحكَم، برز النجم البرتغالي نونو مينديز، قطعةً أساسيةً في المعادلة، فلم يكن مجرد ظهير أيسر يلتزم بمكانه، بل كان عقلاً تكتيكياً يتحرك بوعي عالٍ، يفهم منافسه قبل أن يتحرك، ويقرأ النيّات قبل أن تُنفّذ. أمامه كان الموهبة الاستثنائية، لامين يامال، مصدر الخطر الدائم في كل مباراة، وهو اللاعب، الذي يستطيع بكرة واحدة قلب الموازين. لكن أمام مينديز، بدا كأنه فقد تلك الميزة السحرية. كل مرة يحاول فيها يامال الانسلال أو خلق زاوية للمراوغة، كان يجد أمامه جداراً لا يُخترق: تمركز مثالي، توقيت قطع رائع، ورباطة جأش لا تهتز. حتى في لحظات التفوق البدني أو المهاري لـ"يامال"، كانت استجابة مينديز هادئة وذكية وأنيقة في تدخلها.
ولم يكتفِ مينديز بالدفاع، بل كان له الفضل أيضاً في إعادة التوازن للمباراة بتسجيله هدفاً حاسماً بعد انطلاقة ذكية من الجهة اليسرى، توغل فيها بثقة قبل أن يسدّد كرة قوية هزت الشباك الإسبانية، وأعادت الأمل لفريقه. الهدف لم يكن مجرد لمسة هجومية، بل تجسيد لشخصيته في اللقاء: هادئ، وفعال، وحاسم. وبفضل هذا الأداء المتكامل دفاعاً وهجوماً، لم يكن مفاجئاً تتويجه بجائزة أفضل لاعب في المباراة، في تأكيد إضافي على أنه كان حجر الزاوية في هذا الإنجاز البرتغالي.
ورغم تألق مينديز، فإنّ اللحظة، التي لا يمكن تجاهلها، جاءت عبر القائد التاريخي، كريستيانو رونالدو، الذي وقّع على هدفه رقم 138 بقميص المنتخب البرتغالي، ليعزّز رقمه القياسي بوصفه أفضل هدّاف دولي في تاريخ كرة القدم. وجاء الهدف بتوقيع ناضج، لا يعتمد على السرعة أو القفز العالي، كما في السابق، بل على تمركز مثالي ولمسة خبيرة داخل منطقة الجزاء. وبهذا التتويج الجديد، أضاف رونالدو لقب دوري الأمم الأوروبية إلى سجل إنجازاته المذهل، ليصبح أول لاعب في التاريخ يحقق بطولات كبرى لمنتخب بلاده في ثلاثة عقود مختلفة، ويواصل كتابة سطور فريدة في كتاب كرة القدم.
ومن جانب آخر، كان تراجع إسبانيا في الثلث الأخير من اللقاء ملحوظاً، وتحديداً بعد خروج الثلاثي: بيدري وفابيان رويز ونيكو ويليامز، الذي كان يشكل المحرّك الرئيس للإيقاع الإسباني، سواء في صناعة الفرص، أو في التقدم بالكرة من العمق والأطراف. وبخروجهم، فَقَد "لاروخا" الكثير من الحيوية والديناميكية، وتحولت محاولاته الهجومية إلى نمطية وعقيمة، دون اختراق حقيقي أو تهديد مباشر، إذ لم يقدم البدلاء النجاعة نفسها، ما سمح للبرتغال بالتحكم أكثر في "الريتم"، والدخول في مرحلة إدارة المباراة بذكاء، دون ضغط فعلي على مرماها.
ولكنّ ما صنع الفارق الأهمَّ هو قدرة المنتخب البرتغالي على الجمع بين الانضباط والمرونة، فلم يكن مُقيّداً بخطة دفاعية جامدة، بل كان قادراً على التحول من حالة إلى أخرى دون خلل. في لحظات، كانت يلعب بخمسة مدافعين فعلياً، وفي لحظات أخرى كان يضغط بثلاثة في المقدمة دون أن فقدان التوازن. هذه المرونة لم تكن وليدة الصدفة، بل نتيجة عمل ذهني طويل وفهم عميق للمباراة. وهنا يكمن الفرق الحقيقي بين منتخب يلعب من أجل الحضور، ومنتخب يعرف كيف يفوز حتى عندما لا يهاجم كثيراً.
من جهتها لم تكن إسبانيا ضعيفة، لكنّها بدت كمَن أُجبر على اللعب وفق شروط الخصم. تحكمها في الكرة لم يتحول إلى تهديد مستمر، ومحاولاتها لتسريع "الريتم" كانت تُقابل بانضباط برتغالي قاتل. بدا لاعبوها كأنهم يعانون في إيجاد حلول خارج المنظومة المعتادة، وتحديداً حين فشل لاعبون محوريون، مثل: يامال وبيدري، في كسر الخطوط، أو إحداث الفارق الفردي. وفي هذا السياق، لعبت التجربة البرتغالية دوراً حاسماً، إذ بدا أن لاعبيها أكثر نضجاً، وأقل تسرعاً، وأكثر وعياً بإدارة الوقت والمجهود.
وفي المحصلة، لم تُحسم المباراة بركلات الترجيح فحسب، بل حُسمت في الذهن، في التمركز، في تلك التفاصيل الدقيقة، التي لا تظهر في الإحصائيات. البرتغال، بكل واقعية، لعبت مباراة ناضجة، وخرجت منها بفوز لم يكن مستحقاً فحسب، بل كان تعبيراً صادقاً عن تطوّر فريق يعرف تماماً كيف يفرض منطقه حتى أمام منافس يملك الكرة.