"أتذكر جيدا اليوم الأول لي في هذا النادي، تقابلت مع الملاك، وكلماتهم لي كانت: كلاوديو، هذا الموسم مهم جدا، يجب أن نبقى في الدوري الإنجليزي الممتاز، هذا هو هدفنا ويجب أن تحققه"، يتحدث كلاوديو رانييري في "منبر اللاعبين" عن اللقاء الأول له مع صانعي القرار في كينغ باور، ليُكمل حديثه مجيبا وقتها "سوف نفعل كل ما بوسعنا، سنتدرب بشكل قوي، وسنرى النتائج في النهاية".
40 نقطة كانت الهدف، مجرد الوصول إلى الرقم 40 يعني البقاء، وهذا كان المراد، لكي يستمر جمهور هذا الفريق لموسم جديد في البريمييرليغ، لكن المفاجأة أن ليستر سيتي وصل إلى قمة البطولة لفترة طويلة، قبل أن يُنهي كل شيء، ويخطف اللقب الكبير في آخر الأسابيع، كأكبر وأهم إنجاز كروي في السنوات الماضية من عمر هذه اللعبة.
العجوز المسكين
قدم كلاوديو رانييري نفسه كأحد المدربين الذين لا يوجد عمار كبير بينهم وبين الألقاب، فالرجل الإيطالي العجوز درب في مختلف بلدان أوروبا، وبدأ مسيرته الفنية مبكرا، لكنه كان يقع دائما في الأمتار الأخيرة، ليفقد بطولات عديدة في الأسابيع الحاسمة، مع تشيلسي، وفالنسيا، وروما، لكنه لم ييأس أبدا، مع مواصلته الرحلة في إنتر، ثم موناكو، وأخيرا اليونان، قبل توليه قيادة ليستر في إنجلترا.
خاض رانييري فترة تدريبية طويلة مع تشيلي في بدايات الألفية، وأعاد هذا الفريق من جديد إلى عصبة الأبطال، لكنه فقد موقعه لصالح البرتغالي جوزيه مورينيو، الرجل الخاص الذي جاء بأمر مالك النادي، رومان أبراموفيتش، خلال الولاية الأولى، ليتحول الفريق اللندني من مجرد ناد جيد إلى أفضل ناد بريطاني خلال تلك الحقبة.
وقتها قال جوزيه كلمات قاسية في حق كلاوديو، "هو -يقصد رانييري- عاش في إنجلترا لمدة 5 سنوات، بالكاد يقول صباح الخير ومساء الخير بالإنجليزية، إنه رجل عجوز قارب على السبعين، وحصل فقط على بطولة سوبر وبطولة كأس صغيرة، من المستحيل تغيير عقليته، هناك فارق شاسع بيني وبينه فيما يخص الحاضر والمستقبل، تشيلسي كان على صواب بإبعاده وإحضاري"!
بنجامين بوتون
فيلم الحالة المحيرة لبنجامين بوتون، أحد روائع هوليوود التي لا تنسى، قصة لا يمر فيها الزمن فحسب، بل يعود إلى الوراء ويمضي قدماً إلى الأمام، مقدماً قصة رجل قدر عليه أن يشيخ من الطفولة، عن رجل عندما يصبح طفلاً يكون عمره ثمانين سنة، يبدأ حياته عجوزاً متجعداً لا يقوى على الحراك وينهيها طفلاً حديث الولادة.
يقول كلاوديو رانييري عن نفسه، "أتذكر الحالة المحيرة لبنجامين بوتون، الزمن يمر والوقت يعبر، وأنا أسير في عكس الاتجاه، حتى أصبحت صغيرا لا كبيرا، شابا غير عجوز، هذه هي حكايتي بإيجاز شديد".
عمري 64 عاما، زوجتي أعرفها منذ أكثر من 40 عاما، أقضي معظم وقتي معها، وفي أوقات الراحة نستمتع بالهدوء معا، لكن هذه الحالة قلّت كثيرا مع الشهرة الأخيرة، لدرجة أن الكثير من المتابعين أصبحوا يلاحقونني في أكثر من مكان، والسبب بكل تأكيد ما قدمته مع ليستر سيتي، لا أحد يصدق، وأنا أيضا غير مستوعب لهذه الحالة غريبة الأطوار.
التعلم من الماضي
خسر رانييري بطولات عديدة في الأمتار الأخيرة، الكل يتحدث عن موسمه الشهير مع روما في 2010، حينما كان قريبا من الثنائية المحلية، لكنه فقد الدوري والكأس في الأسابيع الحاسمة، ليصبح هذا الحادث بمثابة صديقه المزعج الذي يطارده في كل مكان يذهب إليه، لدرجة أن مورينيو، مدرب إنتر في ذلك الوقت، رماه بتصريحات نارية مفادها، هذا الرجل اعتاد الفشل، إنه في حالة يرثى لها، هو العنصر المضاد لنجاحاتي في المستديرة.
يبدو أن كلاوديو تعلم هذا الموسم من هفواته، لذلك مع المنافسة على اللقب حتى يناير 2016، تأكد رانييري في داخله أن الاستمرارية أمر ممكن، خصوصا مع تعثر منافسيه، تشيلسي ضائع بعد مورينيو، واليونايتد عاجز رفقة فان جال، وأرسنال كعادته يقع مع الضغط، أما مان سيتي فيعيش فترات صعبة بسبب سياسة الإحلال والتجديد، لذلك الفرصة آتية هذه المرة.
قام المدرب سريعا بنسيان البطولات الأخرى، وأعطى ظهره تماما لبطولة الكأس، من أجل التركيز فقط في البريمييرليغ، والاستفادة من عنصر الإرهاق الذي أصاب منافسيه، وبالتالي حافظ ليستر على رونقه منذ الأسبوع الأول وحتى الأخير، لأنه يركز فقط في بطولة واحدة، عكس البقية التي أنهكتهم كثرة المباريات وتوالي المنافسات محليا وقاريا، وهذا السر كان أول خطوة في مشوار البطولة.
فن التطوير
يُكمل رانييري حديثه الشيق في منبر اللاعبين، مؤكدا أنه يتذكر أول تدريب جمعه بكانتي لاعب ليستر، وقتها شاهد مكوك لا يمل ولا يتعب، يجري في كل مكان ويركض بكل ما أوتي من قوة، ليناديه ويقول له، "كانتي، لا تجر بعد لعب الكرة، حاول أن توفر مجهودك لحدث أهم"، ليرد عليه الفرنسي بعلامات الإيجاب، لكنه يواصل الركض كعادته بدون توقف، إنها هوايته التي تجعله يحب لعب كرة القدم، لذلك من المستحيل أن تمنعه من لحظة يعشقها.
في لحظة ما، سيمرر كانتي كرة عرضية ويركض سريعا لكي يضعها برأسه داخل الشباك، لكن كانتي ليس وحده السر، فجيمي فاردي أيضا جواد أصيل وحصان رابح، يتحرك باستمرار في الثلث الهجومي، لكن رانييري لم يكتف أبدا بهذه الصفات، ليقوم بتطويره فنيا، ويطلب منه ضرورة العودة لمساندة زملائه في حالة الدفاع، مع الضغط المستمر على حامل الكرة من لاعبي المنافس، خصوصا أن فاردي لاعب يعرف كيف يقتل في الفراغات، وكأنه أحد مهاجمي الأزوري في حقبة السبعينيات من القرن الماضي.
محرز أيضا قصة كفاح عظيمة، لاعب جزائري من الدرجة الرابعة في فرنسا إلى بطل الدوري الإنجليزي الممتاز، هو لاعب لا يشق له غبار، مهاري، حاسم، ومميز في المباريات الكبيرة، لأنه يملك الشيء غير القابل للنسخ، إنه يملك الموهبة الربانية التي تجعله متفوقا على أقرانه، من خلال مراوغاته الماهرة ولمساته الساحرة، التي ساعدت ليستر سيتي كثيرا، مع ميل معظم فرق إنجلترا إلى الهجوم وترك مساحات شاغرة في القنوات وبين الخطوط، وبالتالي لاعب بقيمة محرز يستطيع بسهولة صناعة الفارق في هذه الأجواء.
مشوار طويل
لعب ليستر سيتي بتشكيلة شبه ثابتة طوال الموسم، تغييرات قليلة على الهيكل الأساسي، وأسماء معروفة في كل مباراة، ليحصل الفريق على عنصر "التجانس" ويتحول من مجرد مجموعة تلعب الكرة إلى فريق بالمعنى الحقيقي القائم على التناغم، والتحرك كوحدة واحدة في حالات الدفاع والهجوم.
ليست العبرة بطريقة لعب 4-4-2 أو 4-3-3، بل بالإعداد السليم والجودة الكاملة، التي جعلت فريقا مثل ليستر يحصل على 24 نقطة في آخر 10 مباريات حاسمة، عكس منافسه توتنهام الذي حصل فقط على 16 في مثل هذا العدد من المباريات، لأن رانييري اكتشف الخلطة الناجحة، بحفاظه على هيكل أساسي قائم على الكيف لا الكم، لذلك لعب بـ11-14 لاعبا جاهزا 100%، عوضا عن استخدام 18 لاعبا ليسوا في مستوى متقارب.
يؤكد الكثيرون أن الحلم هو سر تفوق ليستر هذا الموسم، لكن كلمات رانييري قاطعة وواضحة، "أنا لم أحلم، لم أحلم أبدا بأن أكون البطل، ولم أكن أتخيل أنني سأكون المتصدر ثم البطل في نهاية الموسم"، أنا فقط أعمل بجد، وقلت للاعبي ليستر ما أؤمن به، اعملوا باجتهاد واتركوا اللقب يحلم بكم في النهاية"!