الرواية الفلسطينية "حصان طروادة" للتطبيع العربي

الرواية الفلسطينية "حصان طروادة" للتطبيع العربي

31 مايو 2020
لجأ الاحتلال إلى وسائل التواصل الاجتماعي(جاك غوز/ فرانس برس)
+ الخط -
مَنْ يكتُبْ حكايته يَرِثْ أَرضَ الكلام، ويمْلُكِ المعنى تمامًا" لخص الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ديوانه لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ الرواية الفلسطينية بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي في مقابل الرواية الصهيونية.

مضى 72 عاماً على إعلان قيام دولة إسرائيل على جزء من الأراضي الفلسطينية التاريخية المحتلة في عام 1948، والذي تبعه بعد ذلك في 1967 احتلال باقي الأراضي الفلسطينية التاريخية. وهو ما فرض على الفلسطينيين واقعا جديدا ينكر جميع الحقوق الفلسطينية من الحق بالأرض إلى الحق بالوجود، فمنذ إطلاق صفقة القرن من قبل مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنير بالمنامة في حزيران/ يونيو 2019، والحديث عن تدفق الاستثمارات المالية للأراضي الفلسطينية والدول العربية، دخل الإعلام الخليجي وقتها على خط الترويج للصفقة عبر التلاعب بالمصطلحات وتطويعها خدمة للمشروع الجديد، وكانت قناة العربية سباقة في ذلك عبر الترويج في كل الفواصل الإعلانية لها لكلام كوشنير في وصفه بأن الصفقة "فرصة لمستقبل أفضل للفلسطينيين"، ثم تطويع البرامج السياسية والإخبارية لتسويق صفقة كوشنير الاقتصادية ليس للفلسطينيين فحسب بل للدول العربية.

استحوذ الوباء على المشهد الإعلامي الدولي والعربي، إلا أن الأخير لاذ بالدراما العربية لتكون ملجأ لترويج الصفقة الأميركية الصهيونية عبر الدراما الرمضانية وبث المغالطات التاريخية التي روَجت لها الرواية الصهيونية منذ سنوات للعبور نحو بوابة التطبيع المباشر مع الاحتلال الإسرائيلي وأنسنته.

الإعلام الجديد: نوافذ صهيونية جديدة للتطبيع

يشكل محور الإعلام رادفاً رئيساً في تشكيل الرأي العام العربي عبر أدواته المسموعة والمرئية والمكتوبة، سواء كانت صحفا ومجلات أو برامج راديو وتلفزيون فيما يعرف بالقنوات الأساسية للإعلام الي يسيطر عليه قطاعان؛ أولهما الإعلام الرسمي الموجه من الدول والحكومات أو الممول عبر قطاع خاص، سواء كان حكومات أو جهات أهلية أو جهات خارجية، فيما عرف بالإعلام الخاص الذي يخضع لشروط الممولين ورؤيتهم واتجاهاتهم. وفي العقد الثاني من الألفية الثانية ظهرت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وصارت رديفا رئيسيا ومؤثرا في تشكيل الوعي الجمعي العربي وفي اتجاهات الرأي العام من خلال أنشطة الأفراد أو التيارات أو المجموعات الشبابية، خاصة قبل ثورات الربيع العربي وبعدها كملاذ خاص لحرية الرأي والتعبير.

تزايد التطبيع العربي-الإسرائيلي، نتيجة لارتدادات "ثورات الربيع العربي" في أواخر عام 2010، حيث استغلت "إسرائيل" الواقع الأمني وزيادة نفوذ إيران، وانتشار ظاهرة الإرهاب في العالم العربي، وانتقلت الاستراتيجية الإسرائيلية إلى الحل الإقليمي "العربي" بدلاً من الحل الداخلي "الفلسطيني"، وذلك بتوطيد علاقاتها بالدول العربية على مستويات عدة؛ سياسية، وأمنية، واقتصادية، وثقافية، ورياضية. وقامت السياسة الخارجية الإسرائيلية بالترويج عربياً ودولياً لقدراتها على التعاون المشترك لمواجهة "العدو المشترك"؛ إيران والإرهاب، ما أدى إلى زيادة الزيارات المتبادلة بين بعض الدول العربية وإسرائيل، وبخاصة الخليجية. كما أدت الأزمات العربية المتنامية، أيضاً، إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية كقضية مركزية عربية، بفعل السياسات الإسرائيلية والأميركية الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية.

"العالم العربي يحتاج إلى التطوير والتكنولوجيا في مجالات المياه والكهرباء والصحة والتقنيات المتطورة، هناك علاقات تتبلور الآن بين شركات إسرائيلية وبين الدول العربية، ونحن الآن في عملية تطبيع مع العالم العربي"، هكذا داعب بنيامين نتنياهو رئيس وزراء دولة الاحتلال، في تصريحه في مارس/ آذار 2019 على صفحته الرسمية في تويتر، العقل العربي، ليس الرسمي فحسب بل الشعبي، خاصة في الخليج العربي، مدشناً مرحلة جديدة من العلاقات بعيداً عن الفلسطينيين ومن دون الحاجة إليهم.

كان الإعلام العربي لسان حال ما وصلنا إليه من حال في الواقع العربي والفلسطيني، ليس على مستوى الإعلام التقليدي فحسب، بل تطور الأمر إلى ساحة الإعلام الرقمي الذي وجد فيه النشطاء والمناضلون ملاذاً آمناً للترويج لأفكارهم ومعتقداتهم ونضالاتهم ضد الأنظمة السلطوية التي استحوذت على مقاليد الحكم في بلدان الثورات العربية التي مُنيت بالارتدادات المتتالية. عملت دولة الاحتلال بكل جَدّية على اختراق المجتمع الفلسطيني والعربي بوسائل إعلامها المقروءة والمسموعة والمرئية منذ عملت التسوية، ولكن زادت وتيرة الاختراقات مع دخول عصر الرقمنة.

قال منشه شاؤول؛ الخبير الإسرائيلي في شؤون الشرق الأوسط، إن دراسات إسرائيلية حول عادات استخدام الإعلام في العالم العربي كشفت أن الإنترنت هي الوسيلة الإعلامية الأكثر استخداماً، لذا انتشر في السنوات الأخيرة عدد من الإذاعات والفضائيات والمواقع الإعلامية الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية، ففي إحدى محاضرات الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي التي قدّمها أمام دورة تأهيل مراسلين، ومحرِّري برامج في التلفزيون والراديو باللغة العربية "نصبو إلى إعلام إسرائيلي ناطق باللغة العربية يعكس حقيقة جيشنا ودولتنا".

توجهت دولة الاحتلال بإعلامها الناطق باللغة العربية باستثمارات ضخمة في وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر" وغيرها للوصول إلى العالم العربي وشبابه بصفحات الرسميين من القيادات الصهيونية والصفحات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفنية الناطقة باللغة العربية والتي تدار من إسرائيليين يعرفون ماذا وعمّن ولماذا ومتى يكتبون، وكلها يشترك في متابعتها آلاف من الفلسطينيين والعرب. لم تكتف دولة الاحتلال بإنشاء صفحات على شبكات التواصل الاجتماعي بل قامت بشكل ممنهج بالترويج للرواية الصهيونية والتحريض على الفلسطينيين ورواياتهم، أولاها القيام بالإعلانات الممولة على مدار الساعة لكل صفحاتهم الرقمية وبث مضامينه باللغة العربية لمصلحة "إسرائيل" الأمنية، بجانب اعتبار تلك المنصات نوافذ استخباراتية لاستدراج وإسقاط الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وجمع المعلومات، ومتابعة ردود أفعال المتابعين الفلسطينيين حول أي قضية من القضايا. والقيام بالتحريض على النشطاء الفلسطينيين والعرب في مواجهة الرواية الصهيونية ودحضها.

رغم أن هدف النوافذ الرقمية الصهيونية هو الوصول إلى أكبر قدر من المستخدمين العربي والسيطرة علي العقل الجمعي العربي ببث الرواية الصهيونية والتأثير عليهم للوصول إلى الترويج لطبيعية دولة الاحتلال وقبولها كدولة شرق أوسطية في محيطها، لكنها استهدفت أيضا هؤلاء المستخدمين بمراقبة مشاركاتهم وصفحاتهم، وحذف حساباتهم، وفي أسوأ الحالات اعتقالهم إذا كانوا في الأراضي المحتلة الفلسطينية، أما إذا كانوا خارجها فكانت تلجأ إلى وقف حساباتهم وإغلاقها عبر الهجمات الإلكترونية، والتحريض على كتاباتهم وحملاتهم، ففي دراسة حديثة للمرصد الفلسطيني في آذار/ مارس 2019، ذكر المرصد أن هناك زيادةً في المنشورات التحريضية ضد الفلسطينيين في شبكات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، حيث ينشر الإسرائيليون منشوراً تحريضياً كل 66 ثانية، مقارنةً بمنشور تحريضي واحد كل 71 ثانية رصده مؤشر عام 2017.

يعتبر فيسبوك أكثر منصة ينتشر فيها التحريض ضد الفلسطينيين بنسبة (66%)، يتبعها تويتر بنسبة (16%)، حيث ازداد عدد المنشورات التحريضية بأكثر من الضعف منذ 2017. وقد نَشرت وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية في عام 2018 ما مجموعه 474,250 منشوراً مشيناً وعنصرياً وتحريضياً ضد الفلسطينيين، ولا سيما على خلفية سَنّ قانون الدولة القومية في تموز/ يوليو 2018، الذي أعلن إسرائيل دولة للشعب اليهودي وحطّ من شأن اللغة العربية من لغة رسمية إلى لغة ذات "وضع خاص".

لم تكتف دولة الاحتلال من نوافذها الخاصة في منصات التواصل الاجتماعي الناطق باللغة العربية الموجهة للعالم العربي وضد الفلسطيني عبر الترويج لأفكار كاذبة ومضللة حول الاحتلال والانتهاكات اليومية التي يقوم به ضد الفلسطينيين وقضيتهم عبر بث مفاهيم ومصطلحات ومضامين "إنسانية" كاليهود العرب وروايتهم، والمطبخ العربي، واللغة العربية وتقاربها مع اللغة العبرية، والأعياد والمناسبات العربية الإسلامية، والتاريخ والثقافة والفن المشترك.. الخ. وليس هذا بالجديد، فمنذ اتفاقيات التسوية وما تلاها صار وجود الناطقين باسم جيش الاحتلال والمحللين الصهاينة ضيوفاً عادياً ودائماً على كبريات الفضائيات العربية المتناحرة في ريادة الإعلام العربي. وتم الترويج لمفاهيم ومضامين "السلام" باعتباره الحل الوحيد للوصول إلى حل عادل يرضي طرفي الصراع.

بذلك، ساهم الإعلام العربي في نشر الرواية الصهيونية في المنطقة العربية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عبر تبني الرواية الصهيونية عبر إفساح المجال أمام أصوات صهيونية كي تتواصل مع الرأي العام العربي، وقام بتمييع وتمويه الرواية الفلسطينية ثم تهميشها، رغم التوجه الرسمي العربي وإعلامه الحكومي والخاص الممول، سواء بدعم جهات قريبة أو متماهية مع النظم الحاكمة أو عبر جهات التمويل الدولية غير بعيدة عن الرواية الصهيونية.

إلى جانب كل ذلك فإن الرواية الفلسطينية كانت إحدى أهم المشكلات التي أضعفت الإعلام العربي والفلسطيني لتبني روايته، إذ طاولها كثير من التشوهات والتغييرات التي طاولت الفعل الفلسطيني منذ تسعينيات القرن الماضي مع عملية التسوية للصراع العربي - الإسرائيلي. وفي حقيقة الأمر فإن الرواية الفلسطينية شابها العديد من التشوهات منذ الستينيات، حين اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن التأريخ للرواية الفلسطينية بدأ مع حركة التحرر الوطني (فتح). ويتضح ذلك في احتفال إسرائيل بتأسيسها باعتباره عيداً لاستقلالها، في حين تؤرخ تلك المناسبة في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني لبداية النكبة.

من يروي التاريخ وكيف يرويه سؤال شديد التعقيد في الخطاب الفلسطيني وروايته، لكنه يحدد ملامح التغييرات في الساحة العربية وتحولاتها الخطيرة والملموسة في تعاطيها مع القضية الفلسطينية، التي تتمثل في محاولة فرض الرواية والرؤى الصهيونية ثقافيا وسياسيا وميدانيا، عبر دعم دولي غير محدود، وخصوصا من قبل الولايات المتحدة الأميركية، وصولا إلى تماهي بعض الدول العربية مع السياسات والرواية الصهيونية، الذي يصل في بعض الحالات إلى درجة إنكار الحق والرواية الفلسطينية.

حصان طروادة: الرواية الفلسطينية بعد أوسلو تؤنسن الاحتلال

يملك الفلسطينيون الحكاية لكن لا يعرفون كيف يروونها، كما أن التحريفات التي راجت في الخطاب الفلسطيني الرسمي حول الحق الفلسطيني كانت بمثابة "حصان طروادة" الذي ساهم في اختراق الرواية الصهيونية للثقافة الفلسطينية والعربية، فمنذ اتفاقيات التسوية التي عرفت إعلامياً بـ"اتفاق أوسلوا" تسلل كثير من التحريفات وحل مكان الرواية الفلسطينية الأصلية وبات من المسلمات في الصراع العربي - الإسرائيلي.

يمكن لنا على عجالة إجمال التحريفات الفلسطينية في رواياتها لفهم الخطاب الإعلامي العربي وتغييراته، وبالتالي لتفكيك حالة التطبيع العربي مع الاحتلال الصهيوني، ومنها اختزال فلسطين التاريخية في جزءٍ من إقليمها الأصلي، أي في الضفة الغربية، ومن ضمنها القدس الشرقية، وقطاع غزة، أي 22% من أراضيها. وصارت كلمة فلسطين تعني تلك المنطقة المتبقية بعد ضم أراضٍ وطرق التفافية وجدار الفصل العنصري والمناطق المغلقة بحجج أمنية فيما يعرف بأراضي السلطة الفلسطينية، خاصة بعد أن ساهمت منظمة التحرير الفلسطينية بعد عام 1988 في الترويج لهذه المغالطة في برنامجها السياسي لإقامةِ دولةٍ فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة.

روجت القيادات الفلسطينية وخطابها السياسي والإعلامي لعام 1967 الذي قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة فيع بقية الأرض الفلسطينية باعتباره بداية للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال، فيما أسقطت ما تعرض له الشعب الفلسطيني إبان الانتداب البريطاني، محاولة محو تاريخ المقاومة الفلسطينية الطويل ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني الاستيطاني. وجعل 1948 عام النكبة وكأنه مقتطع من سياق تاريخي تعرض فيه الفلسطينيون للتهجير والقتل فقط دون أي مقاومة من الفلسطينيين أنفسهم.

عبر أكثر من عشرين عاماً ونيف قامت القيادات الفلسطينية عبر سلطة الحكم الذاتي المحدود ومؤسساتها باختزال الشعب الفلسطيني في السكان الفلسطينيين للضفة الغربية وقطاع غزة، معتبرين أن أقل من نصف الشعب الفلسطيني هم من يتحدثون عنهم وباسمهم، الأمر الذي أدى إلى التعتيم وتمويه وضع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية والعالم وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 خارج المعادلة الفلسطينية وخارج أي حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي جعل قضية اللاجئين الفلسطينيين عرضة لمشاريع دولية لحل مشكلتهم باعتبارها مشكلة إنسانية فقط. ورغم أن اتفاقات أوسلوا 1993-1999 لم تأت على ذكر إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة على الأراضي المحتلة في عام 1967، فإن إقامة دولة فلسطينية جاءت نتيجة افتراض القيادة الفلسطينية أن هذه الدولة ستولد عبر المفاوضات مع إسرائيل. ورغم ضم أراضٍ جديدة لسلطة الاحتلال من أراضي السلطة ومنها المستوطنات ومنحها صفة قانونية عبر القرارات والمشاريع الدولية برعاية أميركية بجانب قانون يهودية الدولة الذي أقره الكنيست الإسرائيلي عام 2019، ظلت القيادة الفلسطينية متمسكة بالرواية الفلسطينية المشوهة التي ساقتها الرواية الصهيونية بأنه يمكن للفلسطينيين إقامة "دولتهم" على ما يتبقى من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، الأمر الذي لا يوحي برواية فلسطينية حقيقية تقوم على مناهضة ومقاومة الرواية الصهيونية التي تروّج بقوة داخل الإعلام العربي.

المساهمون