دينا سليم حنحن.. هجرة أسترالية فجرت ينابيع الأدب

دينا سليم حنحن.. هجرة أسترالية فجرت ينابيع الأدب

11 مايو 2020
لم تثنها ظروف مرض ابنها عن مواصلة العطاء(العربي الجديد)
+ الخط -
في مدينة اللد الفلسطينية ولدت دينا سليم حنحن. وإلى يافا رحلت لاستكمال ثانويتها "فلم يكن في اللد ثانوية لكي ألتحق بها، وقد رفضت دخول مدرسة داخلية في الناصرة لأني لم أحب يوما التحكم بي". وبصوت واثق تذكر لـ"جاليات" عشقها للغتها العربية، وكيف تحولت في سن الثالثة عشرة إلى الرواية والشعر. مسيرتها لن تكون سهلة وهي تقاوم الكبت الاجتماعي، وتخبئ تحت وسادتها ما كتبت.

لوالدها الراحل في الولايات المتحدة الأميركية أثر سيلازمها بقية حياتها، ويصنع منها ما هي عليه اليوم، أديبة روائية في حوزتها 9 روايات، وأكثر أعمالها أنتجته في مهجرها الأسترالي، بعد ما تسميه "20 سنة من تحمل قهر الصمت وكبت رغباتي في الأدب". حياة مليئة بالألم والتصميم، ومتشعبة إلى الحد الذي يجعل من الصعوبة تناول كل مسيرتها مختصرة، لكنها تملك الفسحة الأكبر بالتعبير عن نفسها ومن تكون في أعمالها التي تصدر تباعا في المهجر منذ 15 سنة.


البدايات
قبل أن نكون أمام أديبة في المهجر الأسترالي ثمة ماض مؤثر في بواكير حياة دينا التي تتحدث عن نفسها لـ"جاليات": "ولدت وترعرت بين النكبة والنكسة، كانت طفولتي سعيدة، وتربيت في بيت متواضع ودافئ، في كنف أب مكافح، عاصر النكبة، ونقل الجثث إلى مقابر جماعية، كانت له أحلامه التي لم تتحقق، حثني على الكتابة منذ الصغر، قام بتغليف رواياتي بورق ملوّن وسميك، وكتب اسمه بجانب اسمي، كانت وصيته أن أستمر في رحلة الكتابة وأصبح مثل نجيب محفوظ".

وصية أخرى ستقع على عاتقها، بنقل رفات أبيها من أميركا إلى مدينته اللد في فلسطين، بعد أن لازمته عاما كاملا في مرضه. تفجع برحيله، لكنها تستمد قوة تشجيعه ووصيته للاستمرار بالكتابة، فتكتب أول قصة قصيرة "عندما يسكن الحنين"، لتهديها لروح والد فهمها أكثر من كل محيطها الاجتماعي في مرحلة شبابها وزواجها اللاحق.
تواصل الشابة دراستها اللغات، ومنها الإنكليزية، في جامعة تل أبيب، والتربية في دار المعلمين، لتصبح في عام 1976 معلمة متخصصة في "تعليم الصم والبكم" في مدرسة أبو سنان، حيث كان قلة يملكون مواهبها تلك. تتزوج في سن مبكرة، لتنتقل إلى كفر ياسيف، في الجليل الغربي بفلسطين المحتلة عام 1948. بيد أنه ورغم الزواج وتأسيس أسرة لم تتوقف عن الدراسة، فالتحقت بجامعة حيفا لدراسة "علم النفس والتربية"، لتتخصص في "عسر التعليم" عند الأطفال.
ستصاب بصدمة أخرى فابنها البكر، باسم، الصبي الوحيد بين 4 أخوات، سيقلب حياتها رأسا على عقب، وسيكون منذ السادسة من عمره ملازما لمصير سيدة ستكافح 30 سنة لانتزاع اللوكيميا من دمه، قبل أن يرحل عن 36 سنة في أستراليا.

سمعت عن أن أستراليا فيها علاج، فوقفت ضد تيار عات لتنفصل عن زوج لم يتفهم رغبتها بالكتابة وتخسر كل ما لديها مصممة على هجرة أملا في علاج باسم. حياتها قبل الهجرة، ورغم النجاحات المهنية، لم تكن سهلة ولا بسيطة في كبت وممارسة الأدب سرا، لظروف اجتماعية عديدة، فالمرأة في مجتمع شرقي سقفها بيت الزوجية، أو على الأقل لا "تتمادى" في اقتحام عالم الأدب والشهرة. لكنها، ورغم كتابتها قبل الرحيل بأسماء مستعارة، عملت بوصية والدها الراحل، ليصبح بحوزتها روايتان قبل الهجرة، وتتحرر من قيود زواج كبت لعقدين رغباتها، وأيضا تحرر بتشجيع الأب.



هجرة وأدب

"الهجرة إلى أستراليا لم تكن سهلة، ولم تكن عبثا، فقد كانت هجرة أمل لإنقاذ ابني البكر من آلامه، وبعد 27 سنة من حياة المشافي رحل في المهجر هنا عن 36 سنة، ولكنه أيضا لم يكن مستسلما، فقد أصبح، رغم سرطان الدم، مهندسا في علوم الكومبيوتر". توفي باسم في المهجر قبل 6 سنوات، بعد صراع مع اللوكيميا منذ كان في السادسة من عمره، حيث لم تنفع كل العلاجات في فلسطين. ولم يكن الأمر سهلا على سيدة كافحت طويلا من أجل إنقاذ حياة ابنها، وتربية بناتها الأربع وحيدة في المهجر، إلى جانب تفكيرها ورغبتها بمواصلة رحلتها الأدبية، فالإرهاق النفسي والمالي، والتنقل بين الفنادق، جعلها وبناتها ينطلقن في "الحياة من الصفر مجددا".

لكن، هذا الصفر الذي بدأت منه بعد خسارة كل المال الذي كان بحوزتها، ونظام تعديل الشهادات الخاصة بها، رغم إتقانها الإنكليزية، سيجعل من ابنتها سوار محامية فيما زيزي ستصبح طبيبة نفسية وريهام محامية هجرة ومارلين طبيبة توليد.
البدء من الصفر بالحياة دفع دينا للتدقيق في مرآة ذاتها، تستعيد تاريخا طويلا، انشغلت فيه نهارا في العمل واستكمال الدراسة وتنشئة الأولاد، ومتابعة رحلة علاج الابن، ومواجهة نمطية اجتماعية، وهي التي كانت تدرجت في عملها الوظيفي متنقلة بين الناصرة والرينة وحيفا ومدارس الفريديس كمسؤولة عن "الفحص الذهني" للطلاب الذين يتحضرون لدخول الجامعات. ورغم ذلك، كانت تعيش صراعا بين كتابتها بأسماء مستعارة في الداخل الفلسطيني، الخروج سرا بأولى رواياتها "الحلم المزدوج".

وفي الرحلة إلى أستراليا حملت معها مسودة روايتها الثانية "تراتيل عزاء البحر"، التي ستعتبرها "جواز سفري الأول نحو حياة من اختياري هذه المرة".

الأبناء في مهجرها "كانوا سندي ومصدر قوتي"، لتعود وتسجل معهم "كطلاب أجانب" في الجامعات الأسترالية، "وقد كلفنا ذلك كثيرا عبر المحامين، ولكننا كنا سعداء ولم نتذمر".
فحياة هذه الأسرة ليست كحياة اللاجئين الذين يؤمن لهم مسكن ودخل، فقد كان عليهم الاعتماد على أنفسهم، وهو ما حدث فعليا في بريزبن. وفي هذا المهجر، تعتبر الأديبة والكاتبة دينا حياتهم الجديدة "ولادة جديدة رغم صعوبتها"، حيث روايتها الثالثة "سادينا" ستصدر في سيدني، وتفوز بجائزة.
روايتها الرابعة "ربيع المسافات" ستصدر أثناء ملازمة ابنها في المستشفى، لتخطط للخامسة "الحافيات"، وتصدر لها رائعتها "جدار الصمت"، كسيرة ذاتية حين كانت ترى ابنها "يذبل أمام عينيّ بصمت وألم"، وصدر لها رواية "قلوب لمدن قلقة"، ولاحقا "نارة". والرواية القادمة ستكون عن "النكبة الفلسطينية".
وعن انفجار الكتابة عندها، تذكر دينا سليم حنحن لـ"جاليات" أن "أزرار الكومبيوتر أطفأت الألم داخلي، فمن شيمي الهرب من أجل النجاة، هربتُ من الواقع المرير إلى عالم الكتابة".

نشاط متعدد
خلال السنوات العشر الأخيرة، احتلت الأديبة دينا سليم حنحن منصب مديرة قسم اللغات السامية في إذاعة بريزبن لمختلف الاثنيات (إذاعة فور إي بي، تبث منذ 40 سنة)، وتقدم بنفسها برنامجا أسبوعيا مباشرا على الهواء. وتكتب في صحف ومجلات في أستراليا، ومنها التلغراف، وهي عضو في هيئة تحرير مجلة النجوم، ومستمرة بالنشر في صحافة فلسطين.

شاركت حنحن في عدة مؤتمرات دولية منها: المرأة المبدعة في فرنسا، والجامعة الأهلية في الأردن، وجمعية المترجمين الدوليين في الأردن وفي المغرب، ومؤتمر الثقافة في رام الله. وتحصلت على عدة جوائز أدبية كجائزة ناجي النعمان - لبنان، وجائزة أدب الرحلات -أبو ظبي.


لم تتوقف في أستراليا عن عملها على إحياء الحياة الثقافية في بريزبن، حيث يشهد لها معارفها أنها "دينامو" للثقافة العربية في المدينة. فقد شكلت مع بعض الأصدقاء فرقة "روزانا" للموسيقى العربية، وأسست "منتدى شموس الثقافي"، الذي يستقبل شعراء وأدباء ومثقفين ليتحدثوا أمام جمهور عربي وأسترالي، بالإضافة إلى تقديم برنامج ثقافي "تبر (ذهب) وحبر" لاستضافة كتاب ومسرحيين وشعراء مهاجرين من سورية وغيرها.

المرأة كجنحة..
تعترف دينا بأنها تشعر بحنين إلى البلاد، وهي التي زارتها 4 مرات في غضون 15 سنة، وأثناء الحوار خطر أن تكتب هي بنفسها عن نفسها في هذه الزاوية، فكان التالي:
"عندما تكون الكتابة في عين البعض جنحة، والمرأة مجرد صورة وشكل، والمرض لعنة، على القدر أن يتبدّل والدّفة بيد المرأة وحدها. سعيتُ خلف الأمل، وثقت بنفسي وتحققت أحلامي، كانت أحلامي بسيطة: الكتابة. أحلام صعبة من وجهة نظر الآخرين، الكتابة طقس مختلف، لزاما التفرغ والعزلة وتهذيب النفس والقراءة والمثابرة، لم أتمتع بكل ما ذكرته، لذلك قلبت الطاولة وهربت من القيود، سخّرتُ نفسي لهذا الطريق ولقبتُ (بالمجنونة)، رضيت أن أحيا الجنون، وعشتهُ، وما زلتُ مغرمة بهذا الجنون وأتمنى الاستمرار فيه، حلّقت مثل الطيور وتدربت على التحليق جيدا، كنف الحياة أرواح متمردة. لم أستطع غض النظر عن الأخطاء، لم تتماشَ روحي معها، فجنحت بعيدا عن السرب. حرّرتُ نفسي من القيود بالابتعاد عن الوطن، لم أملك خيارا آخر، رغم أنني حاولت كثيرا. هاجرتُ وتركت كل شيء خلفي، أكيدة أنني لا أستطيع تغيير نظرة المجتمع الذي تربى على ضرورة تدجين المرأة وحصرها في مواقع لا تشبه ذاتها.
ما أُخِذ مني بالقوة استعدتهُ بالقوة، حريتي والكتابة وإخراج التراكمات من داخلي، تحررتُ بقوة القلم وأصبحتُ أشبه ذاتي".

المساهمون