"الضم" كسياسة إسرائيلية قديمة جديدة

"الضم" كسياسة إسرائيلية قديمة جديدة

29 سبتمبر 2019
هدمت إسرائيل آلاف المنازل في الأغوار (جعفر اشتيه/Getty)
+ الخط -
لم يكن وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بضم غور الأردن في الضفة الغربية مجرد دعاية انتخابية، ما حدث أنه استدعى فكرة قديمة جديدة، تتمثل في فرض السيادة الإسرائيلية على الجزء الغربي من غور الأردن.

وهو يكرر ما قاله رئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين الذي كان أكثر جرأة في قوله: "إن مساعي إسرائيل يجب أن تصبّ في منع قيام كيان فلسطيني مشاطئ للبحر الميت، ومنعه من التماس الجغرافي مع أي رقعة أرض عربية"، الأمر الذي يعني أن ما قاله نتنياهو بالنسبة للضم لم يكن مجرد دعاية انتخابية، بل جزء من استراتيجية إسرائيلية ممتدة ومستمرة.

مخطط وليس دعاية انتخابية
بدأت فكرة ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل عندما طرح ييغال آلون، في شهر يوليو/ تموز عام 1967، على الحكومة الإسرائيلية، تصورا يتعلق بالمناطق المحتلة عام 1967، وكان أول مسؤول إسرائيلي يطرح خطة للتسوية في منطقة الشرق الأوسط من وجهة نظر إسرائيلية. وتضمنت خطة "ألون"، اعتبار نهر الأردن هو حدود إسرائيل الشرقية، وإقامة شريط حدودي من غور بيسان وحتى شمال البحر الميت، على أن يشمل حداً أدنى من السكان العرب، مع تجنب ضم السكان العرب والاكتفاء بضم صحراء يهودا مع تعديلات أقل في الحدود. ووفق هذه الخطة، تقوم الفكرة على التالي: حيازة أرض أكثر بسكان عرب أقل. وهو عينه ما كان يخطط له ويريده أرييل شارون، الذي يتقاطع فكره مع آلون لتنفيذ مشروع قائم على فرض ديموغرافيا الأمر الواقع من خلال تهويد أكبر للضفة الغربية ضمن مستوطنات منفصلة في مراحلها الأولى، متصلة عند طرح الحل النهائي.

وعد نتنياهو هو إذن استكمال لخطة قديمة تقوم على فرض سياسة الأمر الواقع باستخدام سياسة "النفس الطويل" الرامية إلى تشويه التركيبة الديموغرافية للضفة الغربية لصالح المستوطنين اليهود ضمن خارطة استيطانية مدروسة، تضمن القدرة على التواصل الجغرافي مع دولة الاحتلال، على حساب معازل سكانية فلسطينية سينتهي بها الأمر إلى أقاليم جغرافية منفصلة (إقليم الشمال وإقليم الوسط وإقليم الجنوب وإقليم غزة)، تديرها مجالس محلية مستقلة عن أي إدارة مركزية.

إن ضمّ غور الأردن يشكل تكريساً للفصل الجغرافي بين فلسطينيي الضفة الغربية وفلسطينيي الأردن، الذين يمثلون عمقاً ديموغرافياً لأي كيان فلسطيني قادم. وبهذا تكون إسرائيل قد نجحت في تطويق عمق الضفة الغربية عبر حاجزين: الأول شرقي يضمّ غور الأردن، والثاني غربي هو الجدار الفاصل الحالي، الأمر الذي يعني استحالة قيام دولة فلسطينية.

العزل قبل الضم
في مارس/ آذار عام 2006 أعلن إيهود أولمرت، القائم بأعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، عن نيته ترسيم حدود إسرائيل النهائية، وحينها لفت مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، وفق تحقيق أجراه في المنطقة، إلى أن إسرائيل ضمت غور الأردن من الناحية الفعلية، وأن قوات الاحتلال الإسرائيلي ماضية بصمت في تطبيق إجراءات عزل الأغوار في الضفة الغربية، ضمن الخطة التي تطلق عليها "الانطواء"، وأن الحصار المشدد على دخول الفلسطينيين للمنطقة يأتي في سياق أخطر من الضم، وهو إخلاء المناطق المراد ضمها من السكان الفلسطينيين.

وبالتالي فإن العزل الذي فُرض حينها على سكان منطقة الغور، هو جزء من خطة إسرائيلية ممنهجة، تهدف إلى تهجير طوعي للسكان، بعدما يتملكهم الإحساس بعدم قدرتهم على مواصلة احتمال إجراءات العزل، وهو ما أطلق عليه "سياسة التهجير الطوعي"، والتي تعتمد التضييق واشتراط الدخول ببطاقة هوية ومنع البناء وهدم البيوت المقامة ومنع الخدمات بمختلف أشكالها بما فيها منع وصول مياه الشرب لسكان المنطقة.

هذا السلوك هو الجزء الأخطر والمُقدم والمُمهد للضم، وفيه تفرض إسرائيل على الفلسطينيين البقاء ضمن بلداتهم التي ضاقت عليهم وتمنع منعًا تامّا البناء الفلسطيني في المناطق المصنّفة "ج". ووفق معطيات منظمة "بتسيلم"، فإنه في الفترة ما بين 2006 وسبتمبر/ أيلول 2017 هدمت الإدارة المدنية 698 وحدة سكنيّة على الأقلّ في بلدات فلسطينية في منطقة الأغوار. المباني التي هُدمت كان يسكنها 2948 فلسطينيًّا، بينهم على الأقلّ 1334 قاصرا. ومنذ بداية 2012 وحتى نهاية سبتمر 2017، هدمت الإدارة المدنيّة على الأقلّ 806 أبنية لغير أغراض السكن، من ضمنها مبانٍ زراعيّة. منع البناء والتطوير الفلسطيني في منطقة الأغوار يمسّ على وجه الخصوص بنحو 10.000 فلسطينيّ يسكنون في أكثر من 50 تجمّعٍا سكّانيّا حيث تسعى إسرائيل بشتّى الطرق لترحيلهم عن منازلهم وأراضيهم.

إن محددات ضم غور الأردن في الضفة الغربية تقوم على أساس ديموغرافي يهدف للوصول إلى تقسيمات جغرافية هي جزء مركزي من الصراع الديموغرافي الحاصل، والذي لا سبيل لتوفق إسرائيل فيه إلا من خلال تفريغ المنطقة من سكانها العرب عبر سياسات العزل والتضييق والهدم والتهجير والضم، مقابل العمل على زيادة الوجود اليهودي، وقبل الضم فقد عزلت إسرائيل حوالي 147264 فلسطينيا من القرى والبلدات المحيطة بالقدس بواسطة الجدار العازل، كما عزلت حوالي 130.000 من سكانها من حملة الهويات الزرقاء والذين يسكنون خارج الجدار، فيما ضمت من خلاله وستضم من خلال مخططات البناء حوالي 300.000 مستوطن إلى شرق المدينة، ما سيعني بالضرورة خلق أغلبية يهودية سيصعب تجاهلها في المستقبل.

إن الهاجس الديموغرافي هو من بين أكثر ما يقلق الإسرائيليين، لذلك تسعى إسرائيل إلى إلغاء الوجود الفلسطيني في منطقة الأغوار ومنع أيّ تطوير فلسطيني في المنطقة. إنّها تمنع الفلسطينيين من استخدام معظم مساحة الأغوار بذرائع مختلفة وتقيّد وصولهم إلى مصادر المياه الوافرة في المنطقة وتمنع السكّان الفلسطينيين هناك من بناء منازل لأنفسهم وتوسيع وتطوير بلداتهم. والغاية من هذه السياسة تعميق السيطرة الإسرائيلية في منطقة الأغوار وضمّها إلى إسرائيل بحُكم الأمر الواقع وضمن ذلك استغلال موارد المنطقة وتقليص الوجود الفلسطيني إلى الحدّ الأدنى.

إن صفقة القرن في جوهرها هي تنفيذ سريع لمخططات الضم، وسواء تمت الصفقة بصيغتها المتوقعة أو تُركت لتنضج وفق مخطط الضم الديموغرافي الاستيطاني، ففي الحالتين سنصل إلى النتيجة ذاتها، معازل جغرافية فلسطينية غير قابلة للحياة إلا بإرادة إسرائيلية، وإسقاط حق العودة نهائيا لضمان ألا يحدث تفوق ديموغرافي فلسطيني أبدا. وهذا عينه ما تستهدفه مخططات ضم غور الأردن، وما يتيح ضمه أن الوجود الفلسطيني هناك قد بات بفعل السياسات الإسرائيلية التهجيرية محدودا، ما يعني أن ضم الغور لا يشكل أي تحديات ديموغرافية على تركيبة سكان إسرائيل.

المساهمون