الصمت الفلسطيني على الابتزاز

الصمت الفلسطيني على الابتزاز

29 سبتمبر 2019
الغزيون عرضة لابتزاز النظام المصري (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -
مما لا شك فيه أن معبر رفح على أرض الواقع شبه مغلق منذ الانقلاب العسكري عام 2013، وهو امتداد لسياسة الإغلاق منذ الانتخابات التشريعية عام 2006، باستثناء مرحلة الثورة المصرية، وكما هو واضح فإن إغلاق المعبر يأتي في إطار سياسة أعم وأشمل تتعلق برغبات الإدارة الأميركية وإسرائيل للضغط على فصائل المقاومة ومساومتها على سلاحها، والامتثال لمطالب إسرائيل بالتهدئة ووقف إطلاق النار حسب الرؤية الإسرائيلية، ومحاربة الإسلام السياسي الذي تمثل حركتا حماس والجهاد الإسلامي جزءاً منه والذي بات يشكل معضلة لكل النظام العربي التقليدي، خاصة بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، غير أن متغيرات كبرى وأحداثاً جللاً؛ إقليمية ودولية، أرخت بظلالها على الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية على قطاع غزة، أفضت إلى إحكام حالة الحصار المفروض أصلاً على قطاع غزة:

أول هذه المتغيرات الانقلاب العسكري في مصر في صيف عام 2013، والذي تعامل مع حركة حماس المسيطرة على غزة كامتداد لجماعة الإخوان المصرية والإسلام السياسي، وعلى هذا الأساس تعامل النظام المصري مع القطاع كمنطقة معادية، مع الاضطرار إلى التعامل مع الحركة من منطلقات واقعية ولمصالح تتعلق بالأمن في سيناء واستقرار الحدود المصرية مع قطاع غزة، ومن جانب آخر فإن النظام الانقلابي أظهر تماهياً أكبر مع المتطلبات الأميركية الإسرائيلية كشرط للقبول والترويج لنظامه، ومن ضمنها تعميق حالة الحصار وقطع خطوط الإمداد العسكري عبر الأنفاق على الحدود مع قطاع غزة.

وثانيها صعود إدارة أميركية برئاسة دونالد ترامب بعد عام 2017، عنصرية، معادية، متحالفة مع اليمين الصهيوني الديني المتطرف في إسرائيل، وبدعم من نتنياهو أعدّ "فريق التسوية" في الإدارة الأميركية القريب من اليمين الصهيوني الديني ما أطلق عليه صفقة القرن، وهو مخطط لتصفية القضية الفلسطينية بتشكيل كيان فلسطيني تحت قيادة السلطة الفلسطينية في قطاع غزة وابتلاع الضفة الغربية والقدس ومصادرة حق اللاجئين، وهذا المخطط يفترض إنهاء حالة المقاومة بفصائلها وبنيتها التحتية في قطاع غزة.

وثالثها العقوبات المالية التي فرضتها السلطة الفلسطينية في مارس/ آذار 2017 تحت شعار "عودة الشرعية وطي صفحة الانقلاب"، وهي عقوبات أصابت جميع مناحي الحياة في قطاع غزة، فهي لم تؤثر على حركة حماس مباشرة، وإنما على أبناء السلطة والموظفين التابعين لها من حركة فتح، وعلى المواطن العادي الذي يكابد الواقع الاقتصادي شبه المنهار أصلاً.

ورابعها إحجام حلفاء حركة حماس الإقليميين عن دعمها، خاصة بعد انهيار العلاقة مع النظام السوري بعد خروج الحركة من سورية ورفضها دعم النظام ضد شعبه، وفتور العلاقة مع إيران الداعم الأكبر للحركة، على الأقل حتى تعاظم العقوبات الأميركية على إيران نهاية عام 2018.

أفضت هذه المتغيرات التي تسببت في تصعيد الحصار واشتداد وطأته إلى ضائقة استراتيجية داخلية وإقليمية ودولية تاريخية لحركة حماس، أوصلت السلطة التي تقودها الحركة إلى الحائط، وقلصت من هامش خياراتها، وحاولت إحداث ثغرات في جدار الحصار، منها محاولات التقارب مع تيار محمد دحلان في حركة فتح الذي يتمتّع بعلاقات وطيدة مع النظام المصري، إلا أن هذه المحاولة فشلت بعد إحجام المصريين عن التعاطي بإيجابية، خاصة فيما يتعلق بالتخفيف من الحصار من ناحية معبر رفح، وانعكاس هذه المحاولة سلباً على علاقات حماس مع تركيا وقطر حلفاء حماس التقليديين، لعدم تقبل هذه الأطراف لأي علاقة مهما كان مضمونها مع محمد دحلان، ثم ابتكرت الحركة بالتعاون مع فصائل المقاومة مسيرات العودة وكسر الحصار على الحدود الشرقية لقطاع غزة والتي انطلقت في مارس/ آذار 2018، وأدت إلى سقوط المئات من الشهداء وكسر حالة وقف إطلاق النار المعمول به منذ حرب عام 2014، والانخراط في حوالي تسع جولات تصعيد كادت تتطور إلى حرب شاملة، ومع تدخل الوسيط المصري بعد كل جولة أُرغمت إسرائيل على تخفيف الحصار، بإدخال الأموال القطرية إلى القطاع وإنعاش مشاريع بنية تحتية، وإحداث تنفيس محدود على معبر رفح.

ومع ذلك استمر الحصار بإطاره العام ووطأته الشديدة على مجمل الوضع الإنساني في القطاع، وحتى وعود المصريين بتخفيف الحصار لم تنفذ كما يجب، ولم يتغير حال معبر رفح الذي تحول إلى أداة عقاب للمسافرين من القطاع، ومع ذلك يتم استقبال وفد المخابرات المصري بعد كل تصعيد، وبعد إيعاز الإسرائيليين بالتصرف مع فصائل المقاومة لتخفيف التوتر في القطاع، في الواقع فإن فصائل المقاومة خاصة حركة حماس تجد نفسها ملزمة بالتعاطي مع المصريين حتى مع سوء الأوضاع، والمماطلة المصرية المستمرة، والتلكؤ في تطبيق التفاهمات، وفقدان القدرة أو الرغبة في إلزام الاحتلال بما يتم التوافق عليه؛ وذلك لأن معبر رفح هو المتنفس الوحيد لقطاع غزة مع العالم الخارجي، رغم كل السلوكيات المصرية المسيئة، ومن ضمنها الاعتقالات والإخفاء القسري لبعض المسافرين وعلى فترات متباعدة، ورغم أن المعبر مفتوح بمستواه في حده الأدنى، كما أن المعبر تدخل من خلاله بضائع مصرية شهرياً تقدر بملايين الدولارات، ترفع من حصيلة الضرائب في وقت تعاني الحكومة في غزة من ندرة الواردات المالية، رغم ارتفاع أسعار بعض البضائع وحالات الاستغلال من الجانب المصري.

من جهة أخرى، فإن الفصائل الفلسطينية بحاجة إلى وسيط دائم مع الإسرائيليين، نظراً لغياب الاستقرار في القطاع، وإمكانية تدهور الأوضاع الميدانية العسكرية مع الاحتلال، والتصعيد العسكري الذي يعقب ذلك، كما أن المقاومة لديها جنود إسرائيليون محتجزون منذ حرب صيف عام 2014، وهي ترنو إلى صفقة تبادل على غرار صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، ولن يكون وسيط أفضل لفصائل المقاومة أكثر من الطرف المصري، بحكم الجغرافيا، والعلاقات التاريخية مع إشاحة النظر عن طبيعة العلاقة خلال العقدين الماضيين.

وبالمجمل فإن معبر رفح على علاته، ونمط العلاقة الذي يغلب عليه الطابع العدائي المصري، يبقى المتنفس الوحيد لسكان القطاع، في ظل الحصار الإسرائيلي الإقليمي الدولي، وفي ظل ضائقة استراتيجية تمر بها القضية الفلسطينية بشكل عام وفصائل المقاومة وحركة حماس في قطاع غزة بشكل خاص، وهو ما يدفع فصائل المقاومة وحركة حماس إلى التحلي بضبط النفس وتحمل منغصات وابتزاز الطرف المصري.

المساهمون