مركزية التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل

مركزية التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل

25 اغسطس 2019
لا مؤشرات على تعليق التنسيق الأمني(حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -
رغم انهيار عملية التسوية بعد مؤتمر كامب ديفيد عام 2000، التي يشكل التنسيق الأمني جزءاً أساسياً منها، واندلاع انتفاضة الأقصى، والقضم التدريجي لما تبقى من منجزات السلطة الفلسطينية المتعلقة بالسيادة وتشكيل مؤسسات لنواة الدولة الفلسطينية المستقبلية العتيدة، والشروع الإسرائيلي في تطبيق مخططات تصفية القضية الفلسطينية (صفقة القرن) لحسم قضايا المقدسات الإسلامية في القدس، واللاجئين، والاستيطان في الضفة، إلا أن عجلة التنسيق الأمني وبغضّ النظر عن التطورات السياسية والإجراءات العدوانية الإسرائيلية اليومية استمرت في السير قدماً دون هوادة، حتى مع قرار المجلس المركزي التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في آذار/ مارس 2015 وقف كافة أشكال التنسيق الأمني، وهذا ما يحيلنا على مركب التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل، ومركزيته في اتفاقية أوسلو والاتفاقات التي تلتها، وحرص السلطة على ديمومة التنسيق الأمني وفصله عن كافة الملفات الأخرى، والنأي به عن أي مستجدات أو أحداث من جانب الاحتلال في الضفة الغربية والقدس وغزة.

عندما خلصت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية خلال الانتفاضة الأولى، بنتيجة مفادها استحالة استمرار الاحتلال بصيغته المباشرة المعروفة للمناطق الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنّ الحل الاستراتيجي يتطلب الانسحاب من التجمعات الفلسطينية الرئيسية (المدن والمخيمات) واستبدال الإدارة العسكرية التابعة للاحتلال، بإدارة فلسطينية تتحمل عبء ومسؤولية تقديم الخدمات، وفي نفس الوقت تتكفل بحماية الجيش الإسرائيلي والمستوطنين ومواجهة المقاومة الفلسطينية، وعلى أساس هذه المعادلة تم التوصل لاتفاق أوسلو عام 1993 وتأسيس السلطة الفلسطينية، ووجد ذلك ترجمة عملية في السنوات الأولى لقيام السلطة من خلال الملاحقات الأمنية والاعتقالات وبناء السجون وأقبية التحقيق، التي بلغت ذروتها عام 1996 بعد حملة الاجتثاث التي قادتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضد حركة حماس وبنيتها العسكرية على إثر سلسلة عمليات استشهادية بعد اغتيال يحيى عياش، وضد حركة "الجهاد الإسلامي" كذلك، لكن التنسيق توقف مع اندلاع انتفاضة الأقصى ليعاد من جديد بعد طرح الإدارة الأميركية خطة خريطة الطريق عام 2003، وفتح الباب واسعاً أمام التنسيق الأمني بعد التخلص من الرئيس الراحل ياسر عرفات واستبدال القيادة الفلسطينية، ولتجاوز آثار انتفاضة الأقصى ومأسسة وترسيخ التنسيق الأمني أرسلت الإدارة الأميركية الجنرال الأميركي كيث دايتون في آذار/ مارس 2005، ليشكل مجلساً تنسيقياً من خبراء أمنيين وعسكريين يشرف على التنسيق الأمني ويقدم التدريب والمشورة، وقد أثمرت جهود دايتون خلق "رجل الأمن الفلسطيني الجديد" في الضفة الغربية حسب تعبيره، الذي يرى في التنسيق الأمني مصلحة وطنية عليا وفي المقاومة خطراً يتهدد المشروع الوطني. وما أعطى نوعاً من المصداقية ولو شكلية لرأي الجنرال دايتون، الصراع بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس بعد فوزها في الانتخابات عام 2006، والتي انتهت بسيطرتها على غزة وطرد السلطة الفلسطينية، فقد رأت السلطة في الضفة في ذلك مبرراً لتعميق التعاون والتنسيق الأمني مع إسرائيل لمواجهة حركة حماس، وانطلقت من شعار أنها إن لم تواجه حماس كحركة مقاومة بالتعاون مع الكيان فإنها ستعمم، أي حركة حماس، ما حدث في غزة على الضفة الغربية.

ورغم صعود اليمين المتطرف في إسرائيل وطيّ صفحة عملية التسوية، وانتقال آلة الاحتلال إلى مراحل متقدمة من فرض المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، والاقتراب أكثر من تهويد المدينة المقدسة وفرض الرؤية التوراتية على الحرم القدسي بكل مكوناته الإسلامية، وجرائم الاحتلال اليومية على طول وعرض الجغرافيا الفلسطينية، إلا أن السلطة لا تزال متمسكة بالتنسيق الأمني ومصرّة على فصله عن أي ملفات أخرى، وعزله عن الأحداث اليومية، وهو ما لخّصه الرئيس محمود عباس في اعتبار التنسيق الأمني بأنه "مقدس"، وهذا يثير تساؤلات من الأغلبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني، تتطلب تقديم تفسيرات مقنعة لإصرار السلطة الفلسطينية على التمسك الراسخ بالتنسيق الأمني، رغم كل ما حصل ولا يزال، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره في النقاط التالية:

أولاً: بالنسبة لدولة الاحتلال، فإن السلطة الفلسطينية في المرحلة الحالية لا تعني أكثر من "وكيل أمني" يساهم في محاربة المقاومة وتقليص المخاطر على المستوطنين والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، بالإضافة إلى إدارة الحياة اليومية نيابة عن الإدارة المدنية للاحتلال، وبالتالي إذا انتفت هذه الخدمات لأي سبب كان، فإن مبرر وجود السلطة من وجهة النظر الإسرائيلية لم يعد له معنى، وهو ما تدركه السلطة الفلسطينية جيداً، فالتنسيق الأمني يمثل بوليصة تأمين يضمن بقاءها وديمومتها أمام إسرائيل، وتدرك أيضاً أنه في اليوم الذي يتم فيه الوقف الفعلي للتنسيق، فإن الجيش الإسرائيلي سيجتاح الضفة الغربية خلال أيام لتتفكك السلطة، أو يبقى بعضها لإدارة أمورها تحت الاحتلال المباشر.

ثانياً: خلال ربع قرن من عمر السلطة الفلسطينية تشكلت طبقة متضخمة نوعاً ما، من قادة رجال الأمن ووزراء ووكلاء ومديرين عامّين؛ منعزلة عن الشعب، تحظى بامتيازات مادّية، ومخصصات ورواتب لا تتناغم مع واقع الشعب الفلسطيني، وببطاقات "VIP" لكبار الشخصيات لتسهيل التحرك والتنقل والسفر للخارج، ومنافع شخصية وعائلية، واختلطت وتشابكت مصالحهم مع بنية السلطة وكينونتها، وبالتالي أصبحت مصالحهم والاستثناءات الخاصة بهم معلقة باستمرار ببقاء السلطة، بمعنى أن التنسيق الأمني هو الضامن الأساسي لاستمرار واقع حياة هذه الطبقة، مع العلم أن هناك نحو 65 ألف رجل أمن في الضفة الغربية، تصرف السلطة نحو 30% من ميزانيتها السنوية على الأمن أي نحو أكثر من مليار دولار في العام، عوضاً عن الميزانيات والهبات الخاصة السرّية التي تأتي مثلاً لجهاز المخابرات الفلسطيني، الذي يتراوح عدد منتسبيه ما بين 4-6 آلاف، يدير 40 "محطة" خارجية بقيادة ضابط رفيع لكل محطة؛ ملحقة بالسفارات الفلسطينية حول العالم، جل عملها جمع المعلومات عن الجاليات الفلسطينية، وعن النشطاء الإسلاميين، وتتبع مصادر تمويل حركات المقاومة.

ثالثاً: تتعامل حركة فتح والسلطة الفلسطينية مع حركة حماس منذ عام 2007 بنوع من التشكيك والتوجس، وبعض العداوة غير الظاهرة أحياناً والفجة في أحيان أخرى، لا كشريك وطني يمكن الالتقاء معه على أساس المصلحة الفلسطينية العليا ومواجهة التحديات والمخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية، وعليه فإن التنسيق الأمني يبقي حركة حماس في الضفة تحت الضغط المتواصل، يحدّ من نشاطاتها، ويقلص من حضورها الجماهيري، ويحجم من تغلغلها الاجتماعي.

رابعاً: لا تخفي السلطة الفلسطينية وخاصة الرئيس أبو مازن، أجندتها الرافضة للمقاومة المسلحة، وحصر خياراتها على الأقل من الناحية النظرية بالمقاومة الشعبية، وهي رغم ما آلت إليه عملية التسوية وما يسمى حلّ الدولتين، فإنها ما زالت تعوّل على مشروع التسوية والشرعية الدولية، الذي يتناقض كلياً مع برنامج المقاومة والعمليات المسلحة في الضفة الغربية.

لا يوجد ما يؤشر في الأمد المنظور وما يدلّ على نية السلطة الفلسطينية التخلي أو حتى تعليق التنسيق الأمني، مهما يُقَل عن عملية التسوية أو الإجراءات الإسرائيلية اليومية على الأرض الفلسطينية، لأن السلطة بمؤسساتها ورجالاتها قائمة على قرار إسرائيلي يستند بالدرجة الأولى على استمرار برنامج التنسيق الأمني.