مؤتمر يكثف الواقع ويجسده

مؤتمر يكثف الواقع ويجسده

30 يونيو 2019
+ الخط -

لم يحظ مؤتمر البحرين بالزخم السياسي المتوقع، نتيجة الهالة الإعلامية التي رافقت الإعلان عنه، وذلك لعدة عوامل، من ضمنها الموقف الفلسطيني الرسمي الحازم منه، من دون أن يعني ذلك فشل المؤتمر أو فشل الغاية منه، وهو ما سوف تكشفه الأيام والأشهر وربما السنوات اللاحقة للمؤتمر. لكن يمكن ملاحظة بعض غايات المؤتمر بصيغته الراهنة، التي تعمل على تكريس الواقع الحالي وتعمل على تجسيده وتمكينه بصورة قد يصعب العودة عنها مستقبلاً، ومن هذه الأمور تكريس فصل القضية الفلسطينية عن بعدها العربي، أو بالأصح فصل البعد العربي عنها، فضلاً عن فصل وعزل القضايا السياسية في سرداب مغلق ومعتم، على أمل أن تزول وتنصهر وتضمحل من تلقاء ذاتها.

فعلى الرغم من توقيع الرئيس المصري الراحل محمد السادات لأول اتفاق سلام عربي مع الاحتلال في عام 1978، الذي أسفر عن تحييد جمهورية مصر العربية عن الصراع العربي الإسرائيلي، وأدى إلى " تعليق عضويتها" في جامعة الدول العربية حتى عام 1989، لكنه لم يسفر عن تحويل الصراع إلى صراع فلسطيني مع الاحتلال فقط، وإن تصاعدت بوادر ذلك بشكل غير مسبوق. فقد تبعه تبنٍ عربي لمبادرة السلام خلال انعقاد القمة العربية الرابعة عشرة في عام 2002، التي أكدت أولوية قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على جميع الأراضي المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، بالتوازي مع التوصل لحل عادل لمشكلة اللاجئين وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، والانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة حتى خط الرابع من حزيران 1967.

وبالتالي فإن مؤتمر البحرين هو بمثابة محاولة جديدة من أجل فصل القضية الفلسطينية عن بعدها العربي، من خلال مجموعة من الاتفاقات والتوافقات والتعاملات العربية مع الاحتلال بغض النظر عن الحقوق العربية والفلسطينية المستلبة. مع فارق صغير، لكنه جوهري، يتمثل بتحولها هذه المرة إلى اتفاقات ذات طابع عربي جماعي يشمل المملكة السعودية، والبحرين، والإمارات المتحدة، وربما غيرها من الدول العربية، وخصوصاً الخليجية، بعدما كانت اتفاقات أحادية، كالاتفاق المصري أو الأردني المستمر حتى اللحظة، أو مثل بعض العلاقات التجارية والسياحية والتمثيلية التي توقفت في غالبها في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أو نتيجة العدوان على قطاع غزة. وعليه يحاول مؤتمر البحرين وربما ما يتبعه من مؤتمرات وخطوات، تجسيد علاقات طبيعية بين الاحتلال وعدد من الدول العربية، ضاربا بعرض الحائط مشاعر وتوجهات الشعوب العربية، والحقائق التاريخية التي تؤكد دور الاحتلال في إدامة تخلف وانقسام الوطن العربي عبر الاعتداءات المباشرة وغير المباشرة.

كذلك تصر الإدارة الأميركية على دفع العلاقات العربية - الإسرائيلية إلى أعلى المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية بغض النظر عن تدهورها السياسي والقانوني والحقوقي، وكأننا أمام مسارين منفصلين تماما لا مجال لأي تقاطع بينهما، بل تذهب إدارة ترامب إلى تعميم أوهام سبق أن جربناها كثيراً، مفادها أن السلام والتعاون العسكري والأمني والاقتصادي بمثابة بوابة السلام السياسي والقانوني. وهي امتداد لأوهام أو بالأصح أكاذيب خبرناها كثيراً بعد اتفاق أوسلو القائم على فصل القضايا والحقوق الفلسطينية قسريا عن بعضها البعض، مؤجلا البحث في أهم القضايا والمسائل مثل الأرض والسيادة والعودة، لصالح ضمان مصالح وأهداف الاحتلال مثل التنسيق الأمني والاقتصادي، بل التبعية الأمنية والاقتصادية. حتى وصلنا إلى واقع جديد يستحيل على ضوئه تشييد دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة كاملة على أي شبر من أرض فلسطين التاريخية، طبعاً إن سلمنا جدلاً بأن ذلك يمثل تطلعات وطموحات كامل أو حتى غالبية الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين التاريخية.

إذاً يجب أن لا ننساق خلف بعض الفقاعات الإعلامية التي تحاول التقليل من خطورة الوضع السائد فلسطينياً وعربياً قبل مؤتمر البحرين أو الترويج لصفقة القرن، لأن الواقع الذي كان سائدا ما قبل المؤتمر يمثل البيئة الخصبة والمثالية، بل والضرورية من أجل زرع وفرض وعقد اتفاقات مشينة وقمم عار، وعليه فنحن مطالبون بتغيير البيئة الرسمية الحاضنة لمثل هذا الحضيض القائم فلسطينيا وعربيا وإن أمكن عالميا. فالفشل المحدق بالمؤتمر والصفقة المزعومة اليوم قد ينقلب علينا غداً كونه نتاج عدة عوامل ذاتية وموضوعية لم تسفر عن تغيير البيئة الحاضنة لهما، فمن الواضح أن رياح اليوم لم تجر كليا وفق أهواء السفن الأميركية والإسرائيلية، بالتزامن مع نمو وتصاعد وتوالي نجاحات النضال الشعبي داخل فلسطين من غزة إلى القدس مرورا بجميع المدن والبلدات الفلسطينية، وخارجها، وخصوصا تلك المرتبطة بنضالات حركة مقاطعة البضائع الإسرائيلية المعروفة بـ BDS، من دون أن نغفل عن مساهمة الموقف الرسمي الفلسطيني المقاطع للمؤتمر والخطة الأميركية أيضا.

لكن بات من الواضح أننا لم نستعد، أو بالأصح لم نمتلك بعد القدرة على مواجهة القادم، فالقادم كما يبدو من قراءة وتحليل الوقائع أصعب وأشد إيلاما إن أغفلنا تغيير البيئة الحاضنة لمثل هذه المكائد والمؤامرات والدسائس، إذ كشف الاحتلال وداعموه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، عن حقيقة مقاصدهم ورغباتهم ومخططاتهم القذرة لنا ولكامل المنطقة بغض النظر عن طريقة ترويجها عبر صفقة القرن أو مؤتمر البحرين أو غيرهما مستقبلا، كما كشف النظام العربي، ونسبيا العالمي، عن أدوارهم المشبوهة في ذلك أيضا. وفي المقابل أثبت النضال الشعبي داخل وخارج فلسطين عن قدراته الكبيرة والحاسمة، وإن كانت مبعثرة هنا وهناك ومفتقدة لوحدة البوصلة والبرنامج والتوجه، الأمر الذي قد يمكننا من البناء على ذلك من أجل تغيير هذا الواقع البائس والمنحط الذي كثفه وجسده مؤتمر البحرين، لعل ذلك يكون الميزة الوحيدة منه.




المساهمون