مصطلح تصفية القضية

مصطلح تصفية القضية

26 مايو 2019
+ الخط -

للوهلة الأولى قد يندفع العديد من الفلسطينيين وأنصارهم نحو التغني بتسمية فلسطين الجديدة، وقد يطلقون العنان لأحلامهم وتمنياتهم التي يأملون حدوثها في فلسطين الجديدة، من عودة جميع أبنائها اللاجئين والمهجرين قسراً بعد غياب طويل يناهز واحدا وسبعين عاما في الكثير من الحالات إلى المدن الحديثة ذات الأبنية والعمارات الشاهقة والفارهة، حسنة المظهر والتنظيم، مرورا بالشوارع النظيفة والعريضة القادرة على استيعاب الحركة المرورية حتى في أشد الأوقات ذروةً وازدحاما، إلى قطاعات الخدمات والصحة والتعليم المتطورة والمكتملة، التي تلبي جميع احتياجات العصر والمجتمع، وليس انتهاء بالنظام العام، والدستور، والقانون المدني، وحيوية المجتمع المدني ونضوجه وتماسكه، ودوره المركزي في إدارة البلد وصناعة المستقبل. وهو ما يفترض أن يعبر عنه مصطلح تجديد فلسطين وفق مفهوم التحديث والتجديد التاريخي واللغوي، إذ ينطلق تجديد اللغة أو التعليم والثقافة أو السياسة والعمران وبناء المدن من البنية القديمة كامتداد لها قادر على التواصل والتفاعل مع الحضارة الإنسانية السائدة في العصر الراهن ومستجداته، لذا لا بد أن يتضمن القديم في الجديد من دون إلغائه وشطبه كلياً وفق ظروفه الموضوعية وقدرته على التغيير والتطوير، وقد يفرض ذلك الحاجة إلى بناء مواز وجديد منفصل إدارياً وتنظيمياً، كما حدث ويحدث عند إنشاء بعض المدن المحدثة، أو عبر التطوير والإضافة النوعية كما يحدث سياسيا وثقافيا وعلميا غالبا. لكن وبقدرة قادر يظهر أن للرئيس الأميركي مفهوماً مختلفاً عن هذا التوصيف أو المصطلح، أو بالأصح يبدو أنه لا يدرك قيمة اللغة وكيفية استخدامها، أو ربما لا يكترث بذلك، تماما كما لا يكترث بالتوازن البيئي، والقيم الإنسانية العادلة، والحقوق، والمساواة بين البشر، وبالثقافة والحضارة والعلم، في مقابل اهتمامه وتركيزه الوحيد والأوحد على المال، والقدرة على شراء ضعاف النفوس به، وكيفية تسخيره من أجل جني المزيد منه بأي طريقة ووسيلة ممكنة، دون اهتمام بتبعات هذه الممارسات الفاسدة والمصلحية على سائر سكان الكوكب.

إذ تتضح حدود استراتيجية الرئيس الأميركي لحل القضية الفلسطينية المعروفة بصفقة القرن من خلال تصريحاته وممارساته بما يخص القضية الفلسطينية، حتى وإن تجاهلنا التسريبات الصحافية حول الصفقة، وخصوصا ما قامت بنشره مؤخرا صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية، التي تحدثت عن توقيع اتفاق ثلاثي بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية وحماس من أجل إقامة دولة فلسطينية تحت اسم " فلسطين الجديدة" على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة دون المستوطنات اليهودية القائمة. ولا يحتاج أي مراقب للوضع الفلسطيني والدولي إلى الكثير من التمعن والتدقيق حتى يتمكن من تكوين تصور شبه كامل عن فحوى الصفقة المزعومة قبل نشر هذه التسريبات الصحافية، والدخول في مهاترات حول التسليم بها مرجعا حقيقيا عن الصفقة حتى إعلانها الرسمي.

فقد أعلن ترامب بنود الصفقة الحقيقية سياسيا وعمليا منذ مدة طويلة، أي حين قرر نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بسيادة الاحتلال على المدينة، ومن خلال إصراره على تقويض عمل منظمة الأونروا ومحاصرتها بهدف إغلاقها وطوي صفحة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة إجمالا.

وبالتالي فهي صفقة تجسد الاحتلال وممارساته الاستيطانية وعمليات التطهير العرقي التي مارسها منذ واحد وسبعين عاما؛ والمستمرة حتى اللحظة. بل يمكن اعتبار استراتيجية الرئيس الأميركي تجاه فلسطين والفلسطينيين تطهيراً عرقياً، وفق أحد تعريفات التطهير العرقي في موسوعة هاتشينسون، والذي يقول "إن القيادة السياسية تخول السلطة العسكرية تنفيذ التطهير العرقي من دون أن تزودها، بالضرورة، بخطط منهجية أو تصدر لها تعليمات صريحة، لكنها لا تترك مجالاً للشك فيما يتعلق بالهدف الشامل والنهائي".

الصفقة الترامبية تنطلق من تكريس الاحتلال والمستوطنات غير الشرعية وفق القانون الدولي الذي صاغ بنوده حلفاء الاحتلال أنفسهم، بل وتشرعن تمددها ونموها، كما تكرس القوانين والممارسات "الإسرائيلية" التي تطرد وتهجر وتحاصر عرب الداخل، والفلسطينيين المقيمين داخل مدينة القدس والبلدات والأحياء التابعة لها اليوم، فضلاً عن استهدافها إلغاء حق العودة، وهو ما يمثل التشريع السياسي لجميع ممارسات العصابات الصهيونية التي هجرت الفلسطينيين وطردتهم بالقوة العسكرية وبوسائل أخرى سياسية وإعلامية حتى الآن.

وعليه يغدو شعار أو مصطلح "فلسطين الجديدة" تعبيراً سياسياً عن طرد الفلسطينيين وعزلهم ضمن كانتونات ضعيفة ومحاصرة من الاحتلال ومستوطنيه حتى إشعار آخر؛ قد يتيح في حينه للاحتلال تصفية أو طرد جميع الفلسطينيين قسرياً خارج أراضي فلسطين التاريخية، بالتوازي مع تثبيت نتائج عمليات التطهير العرقي المذكورة سلفاً والتي أدت إلى تهجير قرابة 800 ألف فلسطيني من أصل 1,4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون داخل فلسطين في عام 1948، والذين أصبحوا اليوم قرابة الـ 6 ملايين لاجئ مسجل لدى الأونروا فقط، في حين تقدر بعض المراكز الإحصائية والبحثية أعداد مجمل اللاجئين الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية وخارجها؛ من المسجلين وغير المسجلين لدى الأونروا بحدود 8,5 ملايين لاجئ. وبالتالي فإن فلسطين ترامب الجديدة هي مسوغ سياسي يشرعن شطب فلسطين التاريخية وتصفية الفلسطينيين أو طردهم قسراً بالحد الأدنى، وإحلال جماعات استيطانية يهودية عوضاً عنها، وتشييد دولة لهم تحت مسمى دولة "إسرائيل".

طبعا لن ينخدع الشعب الفلسطيني بأكاذيب ترامب، كما لن تغريه مشاريعه الزائفة والخادعة التي يعتزم إطلاقها بأموال عربية وخليجية تحديدا، ولن تنطلي عليه لعبة المصطلحات البراقة من قبيل "دولة فلسطين الجديدة"، حتى لو أذعنت القيادة الفلسطينية في الضفة أو غزة للضغوط الأميركية والخارجية. لأننا أمام شعب حر ومناضل وواعٍ، خبر جميع الحيل والمكائد السياسية منذ وعد بلفور وحتى صفقة القرن المزعومة، مروراً بخديعة السلام الفلسطيني - الإسرائيلي "أوسلو" وتبعاتها، وتمكن من حفظ تراثه الثقافي والإنساني والنضالي حتى في أحلك الظروف والأوقات، ورغم تعدد الطعنات الغادرة التي استهدفته على طول الطريق، من أنظمة وحكومات تدعي صداقته قبل المجاهرين بعدائه. لذا لن ينعم الاحتلال الإسرائيلي وداعموه بالراحة إطلاقا، بل سوف تكشف الأيام المقبلة قدرة الفلسطينيين على شق طريق نضالي جديد مراراً وتكراراً حتى تحرير كامل الأرض وعودة جميع اللاجئين وإقامة دولة ديمقراطية واحدة على كامل تراب فلسطين.



المساهمون