تاريخ من المبادرات ورفض فلسطيني دائم

تاريخ من المبادرات ورفض فلسطيني دائم

23 فبراير 2019
الحصار المالي أداة ضغط لتمرير السلام الاقتصادي (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
بدأ مصطلح السلام الاقتصادي يتردد بكثرة بعد وصول بنيامين نتنياهو لرئاسة الوزراء في إسرائيل العام 2008، لكن جذور فكرة السلام الاقتصادي بدأت مطلع السبعينيات ونفذها موشي ديان عندما تبنى ما أطلق عليه "الجسور المفتوحة" وذلك بالسماح بتصدير المنتجات الفلسطينية إلى الأسواق العربية، وفي عام 1986 أطلق وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز مفهوما مشابها عندما قال "بتحسين حياة الفلسطينيين" كمدخل لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 عطل تمرير الفكرة وإن لم ينهها.
مع انطلاق مؤتمر مدريد مطلع التسعينيات عاد مصطلح السلام الاقتصادي من جديد ليصبح المسار السياسي برمته محكوما بالأبعاد الاقتصادية التي ستصبح مدخلا للتعاون والتطبيع، سيعود بنيامين نتنياهو عندما يصبح لأول مرة رئيسا لحكومة إسرائيل منتصف التسعينيات لطرح مفهوم السلام الاقتصادي بدلا من الحقوق السياسية وسيمرر ويروج لفكرة المناطق الصناعية والمشاريع الاقتصادية المشتركة كبديل للحل السياسي المستند إلى، والقائم والمكفول وفق قرارات الشرعية الدولية.

يُستدعى السلام الاقتصادي على شكل عملية إنقاذ، والهدف واحد وإن تعددت أدواته، والمستهدف تصفية القضية الفلسطينية إعمالا للفرضية التي قامت بموجبها إسرائيل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وهو ما يعني التنكر للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره السياسي وحقه في أن يكون له دولة وسيادة.

تدحرجت المحاولات وتعددت منافذها فكانت مبادرة وزير الخارجية الأميركي جون كيري عام 2014 التي تبنتها الرباعية الدولية تحت مسمى المبادرة الاقتصادية الفلسطينية وقد احتوت على برنامج واسع من المشاريع الاستثمارية الدولية في الاقتصاد الفلسطيني (تزيد قيمتها عن 11 مليار دولار). وكنظيراتها تبخرت مبادرة كيري عقب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة العام 2014 واندلاع موجة جديدة من انتفاضة القدس في الضفة الغربية عام 2015.
دخلت خطة تمرير السلام الاقتصادي حيز العلنية برعاية أميركية في سبتمبر/أيلول 2013 عندما مررت واشنطن مخطط تطوير الاقتصاد الفلسطيني كبديل لتعطل وانسداد مفاوضات التسوية وللدقة كبديل عن المفاوضات من الأساس، وكانت السلطة آنذاك قد تلقت خطة من الإدارة الأميركية لتطوير الاقتصاد الفلسطيني بنحو أربعة مليارات دولار على هيئة استثمارات وليس أمولا نقدية، وشملت الخطة التي أعدتها واشنطن واللجنة الرباعية الدولية في حينها قطاعات الزراعة والطاقة والسياحة والصناعة وغيرها من قطاعات وجاءت الخطة التي تسلمتها السلطة في حوالي 200 صفحة مفصلة على أن يمتد تنفيذها لثلاث سنوات.
حذّرت حركة حماس في 30 مايو 2013 من تداعيات رضوخ السلطة الفلسطينية للضغوط الدولية التي تدفع باتجاه التطبيع الكامل مع الاحتلال، على حساب الأرض والثوابت والمقدسات. وقالت الحركة في بيان لها: "ننظر ببالغ الخطورة لمساعي الاحتلال في تكثيف مشاريعه الاستيطانية التي تستهدف الأرض الفلسطينية ومعالمها ومقدساتها في ظل الحديث عن سلام اقتصادي مزعوم واستئناف المفاوضات العبثية بين السلطة والاحتلال لاسيما بعد إعلان الاحتلال "الإسرائيلي" اليوم عن بناء نحو ألف وحدة استيطانية في القدس المحتلة ".

رفضت السلطة الفلسطينية خلال اجتماعها في 15 يناير/كانون الثاني 2014 مقترحات كيري، لكن الأخير لم يدخر جهداً للضغط عليها، تحت طائلة التهديد تارة بقطع المساعدات المالية عن السلطة، وأخرى بركن ملف التسوية في زاوية التجاهل إلى حدّ الإهمال، وترك الفلسطينيين يقارعون الاحتلال وممارساته العدوانية اليومية بأنفسهم، تزامنا مع الترويج لمزاعم تحميلهم مسؤولية إفشال الجهود الأميركية للتوصل إلى "سلام محمود" في المنطقة.
لم يتأخر رد الفصائل الفلسطينية على مخطط تمرير الترويض من بوابة الاقتصاد فجاء رد حماس على لسان القيادي والنائب عنها في المجلس التشريعي إسماعيل الأشقر قائلا: "إن القوى الحية للشعب الفلسطيني لا يمكن أن تقبل بإلغاء حقوقها والعبث بقضيتها الوطنية مقابل سلام اقتصادي يعطي أرضها للاحتلال". مضيفا أن السلام الاقتصادي "رشوة تُعطى للسلطة الفلسطينية لتنفيذ ما تريده إسرائيل وأميركا". وأوضح "إن الأموال التي ستتدفق إنما هي أموال سياسية يراد منها جر السلطة في رام الله إلى مزيد من التنازلات للاحتلال الإسرائيلي، مؤكداً أن أميركا "لا يهمها إلا مصلحة إسرائيل وتضرب بعرض الحائط كل المصالح الأخرى".
في حين عبرت حركة الجهاد الإسلامي على لسان الناطق الرسمي باسمها داود شهاب بأن ثمن التسهيلات الاقتصادية هو السكوت عن الاستيطان والتهويد وسياسة فرض الوقائع على الأرض التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي. واعتبر شهاب أن السلام الاقتصادي "استبدال لوعود منح الفلسطينيين دولة أو دويلة"، ورغم ذلك أكد أن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من خطة السلام الاقتصادي لأن جزءاً من الأموال سيعود لخزينتها.

أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعلى لسان عضو اللجنة المركزية فيها جميل مزهر، فأكدت أن السلام الاقتصادي في الأساس هو مشروع طرحته الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو "ويراد منه تقديم تسهيلات ورشاوى اقتصادية مقابل الأمن لإسرائيل". وذكر مزهر أن "الشعب الفلسطيني يناضل من أجل حريته وعودة لاجئيه وقدسه وأرضه ولا يقاتل من أجل مقايضة كل هذه الثوابت والحقوق بتسهيلات ورشاوى اقتصادية".
والآن جاء الرئيس الأميركي ترامب وإدارته اليمينية الجديدة لتتماهى بالكامل مع توجهات حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل بقيادة نتنياهو الذي يؤمن بفكرة السلام الاقتصادي والتي يعتبرها بديلاً عن الحلول السياسية وعن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
لم يتوقف الموقف الفلسطيني عند الرفض والتحذير لكنه انتقل لمرحلة المواجهة أو على الأقل التعطيل فاستدار إلى استحداث مسيرات العودة ورفع الحصار لتعاد القضية الفلسطينية إلى المشهد وتتقدمه مرة أخرى، ولأن المواجهة سجال تحرك الوسطاء لاحتواء مسيرات العودة ليصبح بحث التهدئة وإنهاء الحصار قناة أخرى جديدة يراد بها ومن خلالها تمرير وترويض الوعي الفلسطيني، ولكن إذا كانت التهدئة وإنهاء الحصار مطلب وطني وشعبي وإنساني مشروع فمن الهام وضعه في إطار التصور الوطني الفلسطيني الذي من الضروري أن يكون موحداً في مواجهة صفقة الرئيس الأميركي ونالد ترامب ترامب التي تتبنى بالكامل مشروع نتنياهو المجسد بمفهوم "السلام الاقتصادي".

المواقف مطلوبة ولكنها لا تكفي، وبالتالي من الهام جداً أيضا الحذر من الأدوات الإسرائيلية التي باتت تفكك المشهد الفلسطيني ومن الهام جدا بلورة موقف فلسطيني موحد وواحد وإرجاء الخلاف والانقسام وتقديم المصالحة والتصالح والمواجهة والتصدي للمخطط، ففي الوقت الذي تدعي فيه إسرائيل تقديم تسهيلات لغزة تعاقب السلطة وتقرصن أموالها. ويحضرني قول الأمين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني في 17 فبراير/شباط 2019 عندما قال: "إن حكومة الاحتلال، تعتقد بفرض الحصار المالي، أن ذلك يدفع القيادة الفلسطينية للتماشي مع خطة ما يعرف بالسلام الاقتصادي على حساب الحقوق السياسية والقانونية، ولم تدرك إدارة ترامب أن الشعب الفلسطيني لا يشترى بالمال السياسي، فهو صاحب قضية وطنية، دفع من أجلها الآلاف من الشهداء والأسرى".

ونحن اليوم في انتظار الأفعال بعد الأقوال، لمواجهة كل هذه المؤامرات التي تستهدف القضية الفلسطينية ولمنع أي استغلال من قبل المطبعين العرب مع الاحتلال الإسرائيلي للوضع الفلسطيني الداخلي، وعلينا أنّ نذهب إلى مصالحة حقيقية وترتيب البيت الفلسطيني ومنظمة التحرير لتضم الجميع ولنكون شركاء في القرار كما نحن شركاء في المصير.