سياسة مستمرة

سياسة مستمرة

30 نوفمبر 2019
+ الخط -
اندلع سجال لافت بين المسؤولين الإسرائيليين بعد عملية اغتيال الشهيد بهاء أبو العطا حول سياسة الاغتيالات بحق القادة والنشطاء الفلسطينيين. زعم جيش الاحتلال أن العملية لا تعني العودة إلى الاغتيالات المتوقفة منذ نهاية حرب 2014 وهي نفسها اللغة التي تحدث بها رئيس الأركان أفيف كوخافي نفسه في مؤتمر صحافي، الثلاثاء - 12 نوفمبر/ تشرين الثاني - بينما رد بلهجة توبيخية وزير الخارجية يسرائيل كاتس المقرب من بنيامين نتنياهو قائلاً: إن إسرائيل لم تتخل عن الاغتيالات أصلاً حتى تعود إليها.

ما قاله الجانبان صحيح؛ فالناطق باسم جيش الاحتلال تحدث عن مرحلة زمنية قصيرة تتعلق بغزة فقط، وبالتحديد تجاه قادة ومسؤولي الفصائل فيها ضمن تفاهم التهدئة المتعثر والبطيء، الذي توسطت فيه القاهرة، بينما استمرت جرائم الاغتيالات والقتل بحق مدنيين ومواطنين فلسطينيين، خاصة تجاه متظاهري مسيرة العودة السلميين، وباتجاه كل من يقترب ولو بالخطأ من السلك الشائك الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.

في غزة كانت الاغتيالات كذلك وسيلة لإعلان الحرب كما جرى في حربي 2008 مع جريمة جماعية بحق مئات من أعضاء الشرطة المكلفين أصلاً بمهام مدنية، و2012 مع اغتيال مسؤول كتائب عز الدين القسام الشهيد أحمد الجعبري، أو من أجل الذهاب إلى جولة تصعيد محدودة لتحقيق أهداف معينة كما جرى مع الاغتيال الأخير للشهيد بهاء أبو العطا.

في الضفة، لم تتوقف الاغتيالات أيضاً، فقبل اغتيال الشهيد أبو العطا بأيام قليلة اغتال جيش الاحتلال بدم بارد الشهيد عمر البدوي في مخيم العروب. تصفيات أخرى وبدم بارد تمت بحق الشهيد صلاح البرغوثي ومقاومين آخرين وحتى مدنيين ضمن سياسة اليد الرخوة على الزناد المدعومة من أعلى الطبقة السياسية المتطرفة التي تمتع بتأييد واسع في الشارع الإسرائيلي المتطرف، أيضاً كما كان الحال في قضية الشهيد عز الدين الشريف الذي تم اغتياله وهو جريح ينزف من دون أن يشكل أي خطر على جنود جيش الاحتلال.

في السياق نفسه، كان تصريح لافت جداً ضمن إطلالة إعلامية نادرة لرئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) يوسي كوهين - صحيفة ميشبحاه، الجمعة 11 أكتوبر/ تشرين الأول - أكد فيه أن إسرائيل لم تتوقف عن الاغتيالات وبدون حساب أيضاً في الخارج بحق قادة ومسؤولين تنفيذيين في حركة حماس، مشيراً الى أن معظمها لا يتم الإعلان عنه من قبل الدولة العبرية أو حتى من قبل حماس نفسها.

في سياق الحديث أقر كوهين كذلك بمركزية الاغتيالات في السياسة الإسرائيلية وهدد خصومه بشكل صريح فجّ بها أيضاً.

إذن لم تتوقف إسرائيل يوماً عن سياسة الاغتيالات وما قاله الناطق باسم جيش الاحتلال مضلل مجتزأ، ورد الوزير - كما كلام رئيس الموساد - كان متبجحاً مسيساً لكنه صحيح ومعبّر أكثر عن الواقع.

الاغتيالات الإسرائيلية لم ولن تتوقف لعدة أسباب، أولها أن القتل أو اللجوء للعنف والدم هو ثابت أساسي ارتكزت عليه الدولة الصهيونية منذ قيامها، وكما في أي حالة استعمارية مماثلة، فإن استخدام القوة الغاشمة يأتي في سياق إخضاع الشعوب المستعمرة، منعها من المقاومة وقبول الأمر الواقع الذي تفرضه القوى الاستعمارية.

إلى ذلك، وفي العقيدة الأمنية التي وضعها مؤسس الدولة الصهيونية دافيد بن غوريون وما زال معمولا بها حتى الآن - مع تحديثات - يحتل الردع، وهو مصطلح دموي أيضاً، حيزاً وركناً أساسياً، تندرج تحته بالتأكيد عمليات الاغتيال لقادة مسؤولين وعلماء فلسطينيين وعرب أيضاً، لإخراجهم من المعركة والتأثير على أو منع آخرين من أخذ مكانهم ومواصلة الطريق بعدهم.

من نافل القول الإشارة إلى أن سياسة الاغتيالات تتعارض مع القوانين والمواثيق الدولية، وحسب التعريف القضائي البسيط، هي إعدام خارج المحاكمة، ناهيك عن وضعية الاحتلال نفسه أصلاً المناقضة للقوانين المواثيق والمعاهدات الدولية، كما لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي.

في إسرائيل يثار من حين إلى آخر نقاش عن جدوى تلك السياسة، طبعاً دون اعتراض على الفكرة من حيث المبدأ إنما على جدواها، وهل تحقق الفائدة المرجوة للدولة العبرية أم لا؟ مع أكثرية في المؤسسة السياسية الأمنية حتى في الشارع تؤيدها، وأقلية واقعية، بالمعنى الإسرائيلي طبعاً، ترى أنها تورط الدولة وتسيء إلى صورتها في الغرب والعالم، دون قدرتها على إحداث تغيير جذري في موازين الصراع مع الفلسطينيين والعرب على حد سواء.

عموماً لم تتوقف إسرائيل، القوة الغاشمة القائمة بالاحتلال، عن تنفيذ الجرائم وعمليات الاغتيال بحق الشعب الفلسطيني. قد تكون حققت نجاحات تكتيكية هنا أو هناك، لكن مع فشل استراتيجي أكيد في فرض الاستسلام أو الهزيمة على الفلسطينيين. لعل أفضل توصيف لقضية الاغتيالات من الألف إلى الياء ذلك الذي قدمه أحد الجنرالات الإسرائيليين أثناء الانتفاضة الثانية، حيث قال بالحرف الواحد: نجحنا في اغتيال عديد من الخلايا، إلا أن ثمة خلية واحدة لم نتمكن من التخلص منها، تضم قرابة 2 مليون فلسطيني في الضفة الغربية. هنا بيت القصيد، فرغم الاغتيالات الفردية والجماعية، عجزت إسرائيل عن إبادة الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه، أو النيل من روحه النضالية العالية، وإصراره على المضي في خيار الصمود والمقاومة بكل الوسائل، من أجل تحقيق آماله الوطنية المشروعة في العودة والاستقلال وتقرير المصير.

المساهمون