الاغتيالات ودورها في تغيير التركيبة القيادية لصالح أجندات سياسية

الاغتيالات ودورها في تغيير التركيبة القيادية لصالح أجندات سياسية

30 نوفمبر 2019
اغتيال الرنتيسي لم يضعف حركة حماس (بيدرو يوغارتي/فرانس برس)
+ الخط -
يعتبر سلاح الاغتيالات الذي يشكل أحد أهم مركبات نظرية الأمن الإسرائيلي وعلى طول مراحل الصراع، أداة محورية تحظى بغطاء قانوني وبإجماع كافة مؤسسات صناعة القرار السياسي والعسكري والأمني. ورغم أن هناك وسائل أخرى كالاعتقالات والإبعاد، إلا أن الاغتيال تقدم عليها كأولوية وفقاً للظرف الزماني والمكاني، خاصة عندما يتعلق الأمر بالصف القيادي الأول، أو ما يسمى إسرائيلياً من الناحية الأمنية "قنبلة بشرية موقوتة". ومن المتعارف عليه أن سلاح الاغتيال خاص بتحييد وضرب منظومة المقاومة من العنصر الميداني إلى رأس الهرم القيادي، إلا أن أداة الاغتيال وجدت لها مساحة واسعة في سياق التعامل مع الحركة الوطنية الفلسطينية، ليس فقط المقاومة وقادتها بالمفهوم التقليدي، وإنما أيضاً حقل العمل والتوجيه السياسي، ما ينعكس على رؤية وتوجه وسلوك حركات المقاومة يحدد لها مسارات ومسارب سياسية مخطط لها سلفاً، في سياق مخططات طويلة المدى تصب في نهاية المطاف لصالح الأجندات الصهيونية، وهو ما عبر عنه بوضوح رئيس مجلس الأمن القومي السابق غيور آيلاند عندما أكد أن "المضي نحو الحل السياسي لا يمكن أن ينجح دون المعالجات الأمنية ومواصلة الحرب على الإرهاب"، وأن للجيش دورا في قيادة المرحلة الانتقالية التي يمارس فيها الاغتيال والتصفية والعنف لخلق بيئة مناسبة، ومهيئة للحل السياسي وفقاً للرؤية الإسرائيلية.

منظمة التحرير وتأهيلها لمتطلبات عملية التسوية
من الواضح مدى الهوة الواسعة بين واقع منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية المنضوية في إطارها في ستينيات القرن الماضي عند نشأتها كحركة نضال وتحرر وطني، وبين واقعها الحالي الذي تحولت فيه إلى أداة لسلطة فلسطينية فاقدة للسيادة وتخدم الأمن الإسرائيلي وتحارب المقاومة، فقد عملت القيادة السياسية الإسرائيلية وبأدواتها الأمنية وبعد انخراط المنظمة في مشروع التسوية بعد عام 1974 على تعبيد الطريق وخلق مسارات محددة لتدجين قيادة المنظمة وحرفها عن خطها النضالي وتهيئتها للسير قدما في دهاليز مشروع التسوية. وضمن أدوات متعددة ومحكمة، برزت أداة الاغتيال كأحد الفواعل الرئيسية في تحقيق هذا الهدف. فقد شكلت النواة الصلبة في حركة فتح التي يشكل العسكريون عمودها الفقري العقبة الكبرى أمام الانخراط في مشروع التسوية، والتي تمثلت في القيادة التاريخية: ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وأبو حسن سلامة وسعد صايل وشخصيات أخرى. وأدار الموساد وبأوامر سياسية عليا وفي سياق خطة معدة بإحكام، سلسلة طويلة من الاغتيالات بأساليب وطرق مختلفة، أفضت أولاً إلى نفق أوسلو المظلم، ثم إعادة صياغة السلطة ودورها بعد عام 2005. ومن أهم الاغتيالات استهداف المسؤول العسكري في حركة فتح وأحد أعمدة الانتفاضة الأولى خليل الوزير "أبو جهاد" في تونس في نيسان/ إبريل 1988، وحسن سلامة "أبو علي" في بيروت عام 1979، واغتيال الرجل الثاني في حركة فتح صلاح خلف "أبو إياد" بالإضافة إلى هايل عبد الحميد "أبو الهول" وأبو محمد العمري في كانون الثاني/ يناير 1991، وحملة التصفيات في الأراضي المحتلة خلال الانتفاضة الأولى ضد الذراع العسكري للحركة الذي عرف بصقور فتح في غزة، والفهد الأسود في الضفة الغربية. هذه التصفيات وضمن أساليب أخرى، عبدت الطريق أمام مسار أوسلو التسووي وتشكيل السلطة الفلسطينية بأذرعها الأمنية التي تحولت بعد سنوات إلى عبء على القضية الفلسطينية.

وبعدما أدرك الرئيس الراحل ياسر عرفات الخديعة الإسرائيلية الأميركية خلال مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، وعقم وإفلاس مسار أوسلو، قرر التراجع ولو مرحلياً بدعم انتفاضة الأقصى وإفساح المجال لفعل عسكري محدود، وهو ما أدى ضمن أسباب أخرى إلى تحول انتفاضة الأقصى نحو العسكرة، وعلى الأثر قررت القيادة الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء أرئيل شارون شطب عرفات من المعادلة الفلسطينية وإعادة بناء السلطة الفلسطينية من جديد بقيادة ورؤية مستحدثة منسجمة مع متطلبات أوسلو، وأكثر تجاوباً مع الطلبات الإسرائيلية.

حاولت الإدارة الأميركية وإسرائيل في العام 2003 فرض قيادة جديدة تستأثر بمعظم صلاحيات السلطة، وتهميش عرفات وإبعاده عن دائرة صنع القرار، إلا أن عرفات كان واعياً لما يخطط له وعلى معرفة بالقيادة الفلسطينية البديلة، التي لم تفلح في انتزاع أي صلاحيات حقيقية من الزعيم ياسر عرفات. فما كان من شارون إلا اغتيال عرفات بتسميمه بمادة مشعة أدت إلى وفاته في تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، وبعدها مباشرة وضعت الإدارة الأميركية مخططاً متكاملاً لإعادة تدجين وتأهيل السلطة، وأوفدت الجنرال الأميركي كيث دايتون مع عدد من المستشارين من جنسيات أوروبية وكندية وأميركية للإشراف على هذا المخطط، الذي أثمر بعد بضع سنيين فقط في تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية تجاه محاربة المقاومة (الإرهاب)، وترسيخ التنسيق الأمني إلى حد القداسة، وتغيير ثقافة المجتمع الوطنية، وضرب قيم الولاء، وتعزيز ثقافة الاستهلاك وتغليب المصالح الشخصية. وحال السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية حالياً هو ترجمة عملية ساطعة لدور السلطة كما خطط له بعد اغتيال الراحل ياسر عرفات.

حركة حماس وضرب النواة القيادية في انتفاضة الأقصى

لم يكن المجتمع الإسرائيلي ولا القيادة السياسية والعسكرية في وارد تحمل تصاعد المقاومة المسلحة في انتفاضة الأقصى، خاصة "العمليات الاستشهادية" في مدن العمق الإسرائيلي، والتي كان للذراع العسكري لحركة حماس مركز الثقل فيها، بالإضافة إلى الفصائل وقوى المقاومة الأخرى، وقد بعثت القيادة السياسية الإسرائيلية عبر الوسيط المصري رسالة إلى الشيخ أحمد ياسين وقادة حماس الآخرين عام 2003 مفادها أن جيش الاحتلال على وشك تصفية كل قيادة حماس إذا استمرت العمليات الاستشهادية. وكان الهدف الإسرائيلي واضحاً بالنسبة لحركة حماس وهو تصفية سلسلة القيادة المسؤولة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن الفعل العسكري لدفع الحركة لوقف إطلاق النار، أو تهيئة الأرضية لهدنة، ولو إلى حين، وهو ما تحقق في كانون الثاني/ يناير 2005، بعد اغتيال معظم القيادة المؤسسة، فقد شرع جيش الاحتلال الإسرائيلي في مسلسل الاغتيالات باستهداف نواة العمل المسلح في نابلس: جميل سليم وجمال منصور وصلاح دروزة وأيمن حلاوة ومحمود أبو الهنود في الفترة ما بين يوليو/ تموز 2001 – ونوفمبر/ تشرين الثاني 2001، ثم صلاح شحادة في غزة، ويوسف السوركجي ونصر جرار في الضفة عام 2002، وإبراهيم المقادمة وإسماعيل أبو شنب عام 2003، والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي عام 2004. وبإعلان هدنة القاهرة في الشهر الأول من عام 2005 تكون انتفاضة الأقصى قد أسدل الستار عليها. اتجهت حماس بعدها نحو البناء الداخلي والتنافس الانتخابي في البلديات والمجلس التشريعي، ونجح الاحتلال مع حركة حماس نسبياً لعام أو عامين، لأن الحركة وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة وفوزها في الانتخابات التشريعية أعادت ترتيب أوراقها وتشكيل بنيتها العسكرية من جديد للتمكن من تحدي الاحتلال وقامت بأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في حزيران/ يونيو 2006.

وتكرر الأمر مع غالبية الفصائل الوطنية الأخرى، فقد استُهدفت القيادة المسؤولة عن العمل العسكري في حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين في سياق محاصرة النشاط العسكري للحركة أو إضعافه على الأقل، فقد اغتيل هاني عابد، أحد قادة العمل العسكري في غزة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، ثم أحد مؤسسي الذراع العسكري لحركة الجهاد محمود الخواجا في مخيم الشاطئ في حزيران/ يونيو 1995، وبعد ذلك بأشهر اغتالت القائد المؤسس فتحي الشقاقي في مالطا في تشرين الثاني 1995، وطاولت قائمة الاغتيالات في انتفاضة الأقصى الجناح المسلح للحركة لتصل تقريباً إلى كل القيادة العسكرية، وكان اغتيال بهاء أبو العطا، القائد العسكري، آخر عمليات الاغتيال حتى الآن، والتي جاءت إسرائيلياً في سياق فرض حالة التهدئة، التي اتهم فيها الكيان أبو العطا بمحاولة تخريبها.

المساهمون