لماذا عاد الانقسام؟

لماذا عاد الانقسام؟

25 يناير 2019
+ الخط -
عاد الانقسام الفلسطيني مع بداية العام الجديد إلى المربع الأول، أو بدا أنه كذلك مع حل المجلس التشريعي، سحب موظفي السلطة من معبر رفح، واحتدام السجال، بل المعركة الإعلامية، بين طرفي الانقسام، فتح وحماس، أو سلطتي الشمال والجنوب في رام الله وغزة.
من هنا تبدو الهواجس من اتجاه الانقسام نحو التأبيد جدية ومنطقية، كون الأمر يتعلق بالشكل والمضمون بالإطار الزمني للانقسام. كما الجوهر السياسي للخلاف المتجذر بين الطرفين.
من حيث الشكل ومع دخول الانقسام - المرض عقده الثاني، يصبح العلاج أصعب بالتأكيد، وللأسف فقد أصبح المرض مزمناً وتراكمت مزيد من الصعوبات أمام المصالحة، وما كان سهلاً أو أقل صعوبة منذ عشر سنوات بات بالتأكيد أكثر تعقيداً الآن وسيزداد صعوبة مع الزمن.
في المضمون السياسي وإضافة إلى المدى الزمني الطويل وتأقلم الناس - ولو مكرهين - مع الانقسام وتجلياته، فإن ما يثير القلق أكثر أن أسباب أو جذور الانقسام ما زالت باقية، ولم يتم التعاطي الجدي معها، لا سياسياً ولا حتى على مستوى العصف الفكري الجماعي، لأن لا أحد يريد التوقف للمراجعة واستخلاص العبر.
على عكس ما قد يبدو للبعض من السطح، فإن اتفاق أوسلو يمثل أحد الأسباب الرئيسية المركزية للانقسام، كونه أوجد سلطة أمنية ضعيفة خاضعة لوصاية الاحتلال وقيوده، ومنع في المقابل الشعب الفلسطيني من تبني أي خيارات أخرى لاسترجاع حقوقه، وهو، أي أوسلو، كان مثار خلاف كبير وعميق فلسطينياً، ورغم تعثره فلم يجر التوافق على خيارات بديلة أخرى، ما أدى في النهاية إلى الاقتتال ثم الانقسام.
وعلى صلة بأوسلو، فإن السلطة نفسها - بنت أوسلو - كانت أحد أسباب الاقتتال والانقسام، رغم أنها ضعيفة عاجزة، سلطة بلا سلطات، كما يقال دائماً، إلا أنه جرى الاقتتال والصراع حولها في واقع سوداوي سوريالي تضمن الذهاب إلى حرب أهلية من أجل سلطة وهمية هي في أحسن الأحوال سلطة بلدية ذاتية لحكم ذاتي موسع نسبياً.
العامل الديمقراطي بالتأكيد - لا يجري الحديث حوله أيضاً - كان أحد أسباب الانقسام، وأحد أسباب عدم حله حتى الآن، للأسف فنحن افتقدنا وما زلنا نفتقد للثقافة الديمقراطية، عجزنا عن بناء مؤسسات راسخة صلبة يمكن الاحتكام إليها عند الخلاف، ولم يكن غريباً أن يتم الاحتكام إلى السلاح، بينما بدت المؤسسات هرمة مترهلة عاجزة عن إيجاد حلول للانقسام والملفات المتفرعة منه.
في هذا السياق، يمكن الحديث أيضاً عن غياب الطرف الثالث الفاعل الجدي الذي كان بإمكانه الضغط على فتح وحماس، ومنع حصول الاقتتال والانقسام أو السعي الحثيث والحشد لإنهائه بأقصر مدى زمني ممكن.
سياسياً، أيضاً كان الانقسام تعبيراً عن التباينات في الرؤى السياسية بين طرفي الانقسام، مع تبني فتح للخيارات السياسية الدبلوماسية السلمية لحل الصراع، وتبني حماس للمقاومة في بعدها العسكري المسلّح، رغم فشل الخيارين بشكل عملي واتضاح أن المقاومة الشعبية السلمية هي الخيار الأفضل والأنسب للتوافق عليه، إلا أن هذا لم يحصل رغم الحديث اللغوي عن المقاومة الشعبية، وفي الجوهر وعملياً، بدا كل طرف متمسكاً بخياراته وقناعاته الفاشلة أو غير الناجعة، مع الانتباه إلى أن لا خلاف على فشل تعثر أوسلو. كما أن العسكرة أدت إلى تدمير غزة ثلاث مرات في خمسة أعوام، ولم تنجح في رفع الحصار أو إجراء تغيير جدي استراتيجي في موازين القوى، ناهيك عن تسببها مباشرة في الاقتتال والانقسام ومراكمة الصعوبات أمام إنهائه.
في المضمون أو السياق السياسي العام، يمكن الحديث عن فرصتين، أو بالأحرى آخر فرصتين للمصالحة وإنهاء الانقسام، أضاعت حماس الفرصة الأولى في 2012، بينما أضاع عباس الفرصة الثانية الأخيرة في 2014، وما شهدناه خلال العام الماضي وما سمي بالوساطة المصرية لم يكن أكثر من جهد وهمي غير جاد لا قيمة له، وفي الوقت الضائع أصلاً بعد استنكاف نظام السيسي لسنوات عن التدخل، بما في ذلك متابعة اتفاق وقف إطلاق النار في الحرب الأخيرة - 2014 - الذي تم أصلاً بوساطته وفي عاصمته.
في 2012، فهم الرئيس عباس أن سيرورة الثورات المتصاعدة قد لا تصب في مصلحته، فتم التوافق في الدوحة مع زعيم حماس خالد مشعل على ما سمي بإعلان الدوحة، الذي لحظ تشكيل حكومة برئاسة عباس نفسه، من أجل إنهاء الانقسام وتنفيذ روزنامة المصالحة بما في ذلك إجراء الانتخابات، إلا أن صقور حماس وعسكرها في غزة استشاطوا غضباً وتطاولوا حتى على مشعل نفسه الذي تخطى صلاحياته ولم يشاورهم - حسب تعبيرهم - رغم أن الإعلان مثّل فرصة جدية للذهاب إلى مصالحة قائمة على قاعدة الشراكة والتنفيذ الأمين والنزيه لوثيقة القاهرة التي تم توقيعها في أيار/ مايو 2011.
في 2014 مع تعثر مسيرة الثورات وانشغال العواصم والحواضر العربية بنفسها وبأزماتها، تم التوقيع على اتفاقية الشاطئ التي كانت أول وثيقة جدية للمصالحة يتم توقيعها في الداخل، وكانت تعبيرا عن غياب الوسيط العربي وانتقال الكرة بالكامل للملعب الفلسطيني، عندها ابتعد عباس عن قاعدة الشراكة، وتصرف كأي زعيم استبدادي عربي يريد الإمساك والتحكم بكل السلطات والمؤسسات، وهذا غير ممكن، بل مستحيل فلسطينياً، حتى بذريعة التصدي لصفقة القرن وضرورة اصطفاف الجميع خلف الزعيم القائد في مواجهتها.
الشاهد أن الانقسام عاد إلى المربع الأول لأن أسبابه ما زالت حاضرة، ولأن البيئة المحيطة فلسطينياً وعربياً باتت غير مؤاتية لإنهائه بعدما تم إهدار آخر فرصتين جديتين على أيدي الفلسطينيين أنفسهم، ومع الوقت الطويل بات مزمناً وعصياً على الحل، ما يعزز فرضية توجه الفلسطينيين على المدى المنظور، إلى شيء ما بين النموذجين الباكستاني والكوري، أي كيانين متباعدين منفصلين تحت وصاية الاحتلال بدرجات ومستويات مختلفة، ولكن بالتأكيد دون الاستسلام التام أمامه لا سياسياً ولا ميدانياً.