في تجذّر الانقسام

في تجذّر الانقسام

25 يناير 2019
+ الخط -
شهدنا مؤخراً حلقة جديدة من حلقات مسلسل الانقسام الفلسطيني، والمتشابهة حد التطابق، إذ تبدأ كل حلقة بتداول الأخبار عن مسعى عربي لإنهاء الانقسام، يتبعه حوارات مع كلا الجانبين عبر الوسيط العربي، حتى يقدم نص اتفاق يتضمن الخطوات المطلوبة من كلا الطرفين، ثم تتصاعد الحملات الإعلامية الحمساوية والفتحاوية التي تهاجم بعض البنود المقترحة، وبالتالي تتكثف جولات الحوار مع الوسيط وصولا إلى توقيع الاتفاق المنشود. وتترافق هذه المرحلة من كل حلقة مع مظاهر احتفال إعلامية غير مسبوقة، على غالبية الوسائل الإعلامية وخصوصا المحسوبة على طرفي النزاع، وتترافق مع مئات التحليلات والتفسيرات السياسية التي تؤكد على جدية الطرفين الحالية في إنهاء الانقسام، انطلاقا من تغيير الظروف والأوضاع الذاتية والموضوعية.

وعند الوصول إلى مرحلة تطبيق بنود الاتفاق؛ تعود المناكفات والاتهامات الإعلامية المتبادلة بشكل خجول بداية، لتتحدث عن تقصير في تطبيق بنود الاتفاق من قبل الطرف الآخر، وغالبا ما تطالب الوسيط العربي بالتدخل السريع والواضح، ثم يفاجئنا أحد الطرفين بتعنته ورفضه المضي قدما في تطبيق الاتفاق دون الرضوخ لشروطه العملية الجديدة، والتي غالبا ما تكون مستوحاة من روح نص الاتفاق، دون أن يوجد ما يؤكدها أو ينفيها في النص الموقع، وبالتالي تعود كرة الخلاف والاتهام إلى الدوران والنمو ببطء حينا وبسرعة حينا آخر، حتى تنفجر عبر قرارات وإجراءات أحادية تعزز وتجذر الانقسام وتنقله إلى مرحلة أعمق وأصعب من التي كان عليها.

وبالتالي بتنا نشاهد الدوران في حلقة مغلقة ومكررة بشكل دوري، مع تكرار كل تفاصيلها ونتائجها، حتى نكاد نجزم بصعوبة كسرها وتجاوزها، وكأننا أمام لعنة أبدية قد أصابت الفلسطينيين جميعا، وحملتهم مصاعب وهموما جديدة ألقاها علينا الانقسام، الذي أضحى الثابت الوحيد في حياة الفلسطينيين اليومية الراهنة. فهل تحول الانقسام إلى حالة يستحيل تجاوزها بفعل الخلاف السياسي؛ أم هو قائم بفعل بعض الأهداف والمصالح المحددة والواضحة، أي هل يمكن رد الانقسام إلى الخلاف في المواقف السياسية المعلنة بين كل من فتح وحماس في المرحلة التي سبقته؟ أم هو نتيجة جملة من التوجهات والمصالح غير المعلنة والمتناقضة بينهما.

فمن ناحية نرى تمسك سلطة رام الله بانتهاج خطاب ديمقراطي وتشاركي عموما، في حين أنها تكرس بممارستها اليومية سلوكا استبداديا فجا وخطيرا بذات الوقت، ابتداء من رفضها نتائج الانتخابات التشريعية التي منحت حماس غالبية تشريعية في العام 2006، مرورا بحملات الاعتقال والتنكيل بحق الأصوات المعارضة داخل مناطق سيطرتها، سواء أكانت هذه الأصوات تعارض بعض السياسات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية والخدمية، كالاحتجاج على قانون الضمان الاجتماعي، أم كانت تعارض حل الدولتين عموما ومسار الاستسلام خصوصا، كحال بعض الناشطين السياسيين. كما يؤكد العقاب المالي الذي ينتهجه محمود عباس كرئيس لمنظمة التحرير تجاه الفصائل والقوى السياسية التي تعارضه أو تخالفه في بعض التوجهات داخل المنظمة، وكرئيس لسلطة رام الله تجاه قطاع غزة عموما، نموذجا آخر على استبدادية الممارسة اليومية. وهو ما يوضح حقيقة توجه سلطة رام الله، القائم على رفض خيار المصالحة إن كان ينطلق من اعتراف متبادل بحجم وتأثير الطرف الآخر، لصالح حل الانقسام عبر إلغاء الآخر، مهما كان حجمه وثقله المالي والسياسي والاجتماعي والعسكري، إذ لا وجود لطرف ثان أيا كان في أي سلطة استبدادية تعمل وتسعى على تقويض المجتمع وتحويله إلى مجتمعها الخاص، الذي يرى ويسمع ويفكر ويقرر وفقا لها وحدها.

من جهة أخرى، نشهد تناقض سلوك وممارسة حركة حماس، منذ المرحلة التي سبقت الانقسام وحتى اللحظة، مع مجمل خطابها السياسي والإعلامي، اذ تدعي الحركة حرصها على تحرير فلسطين عبر المقاومة المسلحة، وتعبر عن تناقضها مع جميع الحلول الاستسلامية والانهزامية وعلى رأسها حل الدولتين. بينما يبدو أنها قد نسفت كل ذلك منذ لحظة قبولها المشاركة في اللعبة الانتخابية الناشئة من رحم اتفاق أوسلو، والذي كرسته لاحقا بعد نجاحها الانتخابي عبر حرصها وتمسكها بهذا الإنجاز، وسعيها إلى فرض سلطتها الكاملة وفق نتائج الانتخابات التشريعية، بدلا من العمل على تشكيل قطب سياسي فلسطيني يرفض نتائج أوسلو ويعمل على حل السلطة الوهمية الناتجة عنه، من أجل استعادة مسار ونهج النضال الفلسطيني. كما أعادت تكريس هذا التوجه لاحقا بعد انسحاب الاحتلال من غزة، عبر فرض سلطتها العسكرية الكاملة على القطاع وبأي ثمن كان، متذرعة بامتلاكها شرعية انتخابية وبحقها في حماية المقاومة من براثن عملاء الاحتلال، الذين تصدرهم في ذلك الوقت - وفق خطابها- مجموعات تابعة لعضو حركة فتح محمد دحلان، والذي بقدرة قادر قد تحول اليوم إلى أحد حلفاء حماس أو المقربين لها بالحد الأدنى.

إذا لقد شاركت حماس في الانتخابات السلطوية، وفرضت سلطتها العسكرية داخل غزة، على أمل أن يمكنها ذلك من فرض إرداتها وسلطتها الأحادية والاستبدادية أيضا على مجمل الوضع الفلسطيني. وبالتالي نحن أمام توجه فتحاوي وحمساوي مشترك، يعكس الرغبة في بسط السيطرة الكاملة على الحياة السياسية، بما يضمن تحقيق مصالحهم الاقتصادية والمالية والجهوية كذلك. مما يدفعنا إلى الاعتقاد أن الانقسام كان خيارا ولم يكن نتيجة، لدى حماس كما لدى فتح، بعد فشلهما في فرض سلطتهما المطلقة على الوضع الفلسطيني، مما جعل الانقسام خيارا بديلا مقبولا وإن كان مؤقتا لكليهما، فهو مرتبط بنجاح أحد الطرفين بكسر الآخر وإحكام سيطرته على كامل الوضع السياسي والمالي والعسكري. لكن ونظراً إلى حجم الدعم الخارجي الذي يتلقاه الطرفان، والذي لا يضاهيه أي دعم مقدم إلى أي طرف أو جهة سياسية فلسطينية أخرى، بات من الصعب التنبؤ بقدرة أي منهما على هزيمة الآخر بشكل كامل. في حين يبدو أن حالة النفور واليأس الشعبية منهما ومن مجمل القوى السياسية الفلسطينية، المتصاعدة يوما بعد آخر، تمثل الأمل الوحيد لطي صفحة الانقسام والاستسلام والتلاعب بتضحيات المناضلين، عبر تجاوز كل من ساهم في تدمير الكيان الفلسطيني وحال بانتهازيته وعمالته دون استعادة جميع حقوقنا المستلبة.

المساهمون