الوسيط المصري... الانحياز الواضح

الوسيط المصري... الانحياز الواضح

26 يناير 2019
تتعامل القاهرة مع "حماس" كورقة مساومة (علي جاد الله/الأناضول)
+ الخط -
في البداية لا بد من الإشارة للإطار المفاهيمي العام الذي يوجه السياسة العامة الرسمية المصرية تجاه طرفي الانقسام الفلسطيني، فالنظام يتعامل مع حركة "حماس" كحركة مقاومة وسلطة بعد عام 2007، أي بعد سيطرت الحركة على القطاع وتشكيل سلطة لإدارته، من خلال القناة الأمنية ممثلةً بإدارة فلسطين في جهاز المخابرات العامة، وهي وإن تعاملت بهذا المنطق مع حركة حماس كحركة مقاومة مثل أي فصيل مقاوم في قطاع غزة فإنها عممت نمط التعامل على السلطة في غزة بعد عام 2007، ورغم ذلك فهي تتعامل رسمياً مع "حماس" كجهة معادية وليس حركة تحرر وطني فلسطينية المنشأ ومحلية الفعل والأداء بحكم انتمائها إلى مدرسة جماعة الإخوان المسلمين التي يعتبرها النظام "جماعة إرهابية" ويخوض معها صراعاً تاريخياً وجودياً تحول بعد الانقلاب العسكري إلى صراع صفري، ورغم أنها تعاطت مع "حماس" كجهة معادية إلا أنها تعاملت معها بمنطق الأمر الواقع الذي لا مفر منها، بخلاف السلطة الفلسطينية في رام الله التي يتعامل معها النظام المصري بأنها الجهة الفلسطينية الرسمية المُعترف بها دولياً، بموازاة القنوات الأمنية، فهي تتعامل مع السلطة عبر الجهات السياسية الرسمية المصرية كمؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية مباشرة.
ورغم التعاطي الرسمي للنظام المصري ككل بسلبية مع "حماس" كحركة مقاومة ومؤسسة سلطة، إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الاستثناءات وفي مراحل محددة من شخصيات أمنية أو سياسية وازنة بروح وطنية أو قومية، ولكنها لا يمكن أن تغرد خارج السرب، لأن الذي يقرر هو مجموع ما يسمى بالمؤسسات السيادية (وزارة الخارجية، المخابرات العامة، المخابرات الحربية، والأمن الوطني) بالإضافة إلى مكتب الرئيس، تاريخياً كان لمؤسسة المخابرات العامة العريقة الدور الأكبر في إدارة العلاقة مع الشأن الفلسطيني، ولكن بعد أن سيطر العسكر على السلطة عقب انقلاب 2013 تراجع دور المخابرات، لصالح جهاز المخابرات الحربية الذراع الاستخبارية للجيش المصري والأكثر ولاءً للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والمعروف بعدائه للإسلاميين بشكلٍ عام.
لا تبتعد إسرائيل عن شكل ومضمون العلاقة بين مصر وطرفي الانقسام والقضية الفلسطينية بشكلٍ عام، ورغم عدائية نظام المخلوع حسني مبارك لحركة حماس، إلا أن السيسي ونظامه العسكري بعد 2013 كانا أشد عدائيةً لحركة حماس وأكثر انسجاماً مع الطرف الإسرائيلي وأكثر تعاوناً واستجابةً للمطالب الصهيونية، وهو ما لخصه تصريح وزير الأمن الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان عندما صرح وبشكل علني أن "من يتحكم بفتح او إغلاق معبر رفح هو إسرائيل"، وتمثلت أيضاً في إحكام الحصار على قطاع غزة وإغلاق الأنفاق بعد عام 2013، ونجاح الجيش المصري بمساندة استخبارية وعسكرية جوية إسرائيلية من ضرب خطوط إمداد المقاومة في شمال سيناء بعد الانقلاب العسكري، وهو أحد الشروط الأساسية والذي نُفذ بحذافيره لتبني إسرائيل نظام العسكر المصري والترويج له دولياً بمساندة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
من الناحية النظرية تحرك النظام المصري في تعاطيه أمنياً وسياسياً من أرضية أن قطاع غزة بأحداثه وتقلباته جزء من الأمن القومي المصري المرتبط بسيناء، وجزء من الجبهة الشرقة المشتركة مع دولة الاحتلال التي يُفترض أنها عدو، ولكن عملياً تعامل النظام المصري مع غزة وفصائل المقاومة كورقة مساومة سياسية، كما القضية الفلسطينية بشكلٍ عام، يتم توظيفها عند الحاجة مع إسرائيل أو السلطة الفلسطينية، وحتى في سياق العلاقة مع الولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان تُستدعى في المناكفات ضد أطراف عربية وإسلامية على خلاف مع النظام المصري، وبالتأكيد يُستثنى من هذه السياسة الفترة ما بين مارس/آذار 2011 حتى يوليو/تموز 2013 أي الفترة القصيرة من عُمر ثورة الشعب المصري التي لم تعمر طويلاً، والتي تجسدت فيها المواقف المصرية كما يُفترض أن تكون، من قبيل الموقف المصري من عدوان نوفمبر/تشرين الثاني 2012 أو ما عرف بـ"حرب حجارة السجّيل" حيث تحركت مصر سريعاً وعلى جميع الصُعد للجم العدوان على القطاع والذي لم يستمر أكثر من أسبوع.
وفي هذه المرحلة شهدت القاهرة حوارات حقيقية للمصالحة في ربيع 2011 والتي تمخضت عن اتفاقية الوفاق الوطني في مايو/أيار 2011 تضمن الرؤية المصرية الموضوعية لحل القضايا الخلافية، وشملت إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بالإضافة للمجلس الوطني بشكل متزامن، وإعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة وغزة بإشراف مصري عربي، وتشكيل إطار قيادي مؤقت لحين انتخاب المجلس الوطني الجديد.
باستثناء هذه المرحلة لم يكن الراعي المصري موضوعياً، ولم يكن على مسافة واحدة من طرفي الانقسام، فكان أقرب وبمسافة كبيرة إلى السلطة الفلسطينية في رام الله ومواقفها، وإن لم يظهر ذلك للعيان، فلم يتعاطَ إيجابياً مع نتائج انتخابات عام 2006 التي فازت بها حركة حماس في تناغم مع الموقف الإسرائيلي الأميركي الذي لم يعترف بنتائج الانتخابات وحرّض على مقاطعة حركة حماس إلا إذا اعترفت بشروط الرباعية، وبعد سيطرة حماس على غزة بعد عام 2007 أسرع نظام مبارك إلى إغلاق معبر رفح بشكل شبه كامل، وأعلن أنه لا يعترف إلا بالسلطة الشرعية ممثلةً بالرئيس أبو مازن، وكان التواطؤ واضحاً في حرب غزة الأولى أواخر عام 2008 عندما حلت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيفي ليفني ضيفةً على نظيرها المصري في حينه أحمد أبو الغيط قبل الحرب بأيام، ولم تتحرك الدبلوماسية المصرية لفعل أي شيء لوقف العدوان الذي استمر لأكثر من ثلاثة أسابيع.
لم يكن الانقلاب العسكري بعد 2013 أفضل حالاً من نظام مبارك في الموقف من الانقسام وطرفيه ومن القضية الفلسطينية بشكلٍ عام، بل أكثر سوءاً وأكثر اقتراباً وتعاوناً مع اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل، وفي ظله تعمق الانقسام وتعاظم الشرخ الذي طاول كل أشكال العلاقة بين جناحي الوطن في الضفة وغزة، في الفترة ما بين 2013 و2017 انشغل النظام في تشديد الحصار على قطاع غزة، وفي الانطلاق بحملة عسكرية بالتعاون مع إسرائيل لإنهاء ظاهرة الأنفاق وقطع خطوط إمداد فصائل المقاومة التي عملت إسرائيل والإدارة الأميركية وبإصرار على إغلاقها ومارست ضغوطاً كبيرة على نظام مبارك والذي لم يفلح في إنجازها.
وبعد صعود ترامب ومعه أنصار اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة على رأس هرم السلطة، وفي مقدمة أجندتهم تصفية القضية الفلسطينية، أعد اليمين الصهيوني الحاكم في إسرائيل مخططاً قدمه نتنياهو إلى فريق ترامب الخاص بقيادة صهره جاريد كوشنير عرف بصفقة القرن، والذي اختزل القضية الفلسطينية في دولة غزة الكبرى من الممكن أن تتوسع نحو شمال شرق سيناء، ولكن العقبة الأساسية تمثلت في السلطة الفعلية في قطاع غزة وفصائل المقاومة وقدراتها العسكرية التي لا تستقيم مع مخطط صفقة القرن، فكان لا بد من عودة سلطة أبو مازن إلى قطاع غزة ومعها تجربة التنسيق الأمني التي لا تعترف بالمقاومة المسلحة وتحاربها، فكان مخطط حصار قطاع غزة والعقوبات التصاعدية والتي لم تنته فصولها بعد، وبدأت معها جولات الحوار في القاهرة بإشراف جهاز المخابرات العامة بعنوان إنجاز المصالحة وتحقيق الوحدة الوطنية، الرئيس أبو مازن أصر على عودة السلطة في رام الله إلى غزة فوراً ورزمة واحدة مع تجاوز كل الحقائق على الأرض التي ترسخت بعد عام 2007م ومنها البنية التحتية للمقاومة وسلاحها، وعشرات آلاف الموظفين، المقاربة المصرية كانت تعتقد باستحالة تخلي فصائل المقاومة عن سلاحها، وتخلي حماس عن الموظفين الحكوميين، وبالتالي تحقيق الهدف المشار أعلاه يتطلب التدرج في التطبيق والسير خطوة بخطوة وهو ما رفضه عباس حتى مع اتفاق أكتوبر/تشرين الأول 2017، وقد قدم الطرف المصري أكثر من ورقة لعودة السلطة في غزة إلا أنها كانت تصطدم برفض الرئيس عباس، الذي كان يتسلح بالشرعية والاعتراف الدولي والإسناد الإسرائيلي، وكان النظام المصري أعجز من أن يفرض رؤيته للمصالحة على الرئيس عباس.
من الواضح أن الطرف المصري بشكل عام لم يكن متوازناً في التعاطي مع طرفي الانقسام، وكان أقرب بكثير للسلطة وحركة فتح، مع ثقل الحضور الأميركي الإسرائيلي الذي أفقد الدور المصري استقلاليته وجعله رهينةً لمواقفهما حتى ولو على حساب الأمن القومي المصري.

المساهمون