إسرائيل والانقسام وواقع الانفصال الحتمي

إسرائيل والانقسام وواقع الانفصال الحتمي

26 يناير 2019
تصدرت غزة المواجهة مع الاحتلال (مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -
لم يكن من نافلة القول الادعاء بأن الاحتلال الإسرائيلي شكل البذرة الأولى والأرضية المناسبة لمشروع الانقسام السياسي والجغرافي الذي بات ينخر في كل تفاصيل المسألة الفلسطينية، حتى قبل تبلور الحركة الوطنية الفلسطينية ومن بعدها التيار الإسلامي بصيغته المقاومة، وهذا لا يعفي طرفي الانقسام من المسؤولية أو يستبعد أطرافاً أخرى إقليمية ودولية ساهمت في تعميق الانقسام أو على الأقل إدامته.
تجسدت المحطة الأولى من الانقسام في العامل الجغرافي، فبعد قيام دولة الكيان وتشتت الشعب الفلسطيني واحتلال 78% من أرض فلسطين التاريخية، بقيت الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة حتى عام 1967 خارج سياق الاحتلال، ولكنها منفصلة جغرافياً، وبقيت كذلك بعد اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تعمم سيطرتها وتمارس سيادتها على الكيان الفلسطيني كوحدة سياسية وجغرافية واحدة.
قامت سياسة "الإدارة المدنية" التابعة للاحتلال قبل الانتفاضة الأولى على سياسة الاحتواء والانفتاح قدر الإمكان وتسهيلات اقتصادية بما يستبطن إحداث رفاهية في سياق تمييع الروح الوطنية وتسييل حالة الصراع الطبيعية بين الكيان الاحتلالي والشعب الواقع تحت الاحتلال، ومع اندلاع انتفاضة الحجارة المجيدة ومع تصاعد المقاومة الشعبية وانتفاضة السلاح الأبيض بعد عام 1990 بدأت إدارة الاحتلال بفرض قيود تصاعدية وفرض قيود على تحرك الفلسطينيين، ومن ضمنها التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، الانتفاضة رسخت قناعة لدى القيادة السياسية والأمنية باستحالة استمرار الاحتلال بصيغته المعروفة وأنه لا مفر من الانسحاب من المدن والقرى المنتفضة ذات الكثافة السكانية، ومن هنا جاء اتفاق أوسلو لتحقيق الرؤية الإسرائيلية بالانسحاب من المناطق الأكثر كثافة على أقل بقعة جغرافية ممكنة مع ترك إدارتها لسلطة فلسطينية بجوهر أمني وبصلاحيات مدنية محدودة، بمعنى ترك قطاع غزة المكتظ بالسكان كحالة منفصلة عن الضفة الغربية التي تتركز معظم الكثافة السكانية في المدن الرئيسية فيها، فيما 60% من مساحة الضفة يقطنها أقل من 20% من سكان الضفة، عوضاً عن الأساطير التوراتية والادعاءات التاريخية الزائفة في الحق اليهودي الديني في ما يسمى "يهودا والسامرة"، أي الضفة الغربية، لذلك كانت أنظار المستوى السياسي ونخب اليمين القومي الديني المتطرف تتجه نحو ابتلاع الضفة الغربية بفعل مصادرة الأراضي والتمدد الاستيطاني وتجزئتها إلى مناطق عسكرية ومناطق دفاع استراتيجي ومحميات طبيعية، بخلاف قطاع غزة الذي لا يشمل أياً من ذلك. ورغم برتوكول الممر الآمن في اتفاق أوسلو لربط الضفة الغربية وغزة، إلا أن الكيان ماطل في إنجازه حتى عام 1999، وهو ممر يبلغ طوله 44 كيلومترًا، سمح للفلسطينيين بحركة المرور بين حاجز ترقوميا على مشارف مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية، وحاجز إيرز على مدخل شمال قطاع غزة، والممر خضع بالكامل للسيادة الإسرائيلية، إذ اعتادت سلطات الاحتلال على إصدار بطاقات خاصة لفئة معينة من الفلسطينيين مدة سريانها عام واحد للتنقل بين الضفة والقطاع وبالعكس. لم يُعمر الممر الآمن طويلاً، فبعد عدة أشهر من تشغيله اندلعت انتفاضة الأقصى ومعها كانت نهاية الممر الآمن.
لم يكن وضع الجيش الإسرائيلي وما تبقى من المستوطنين في قطاع غزة بعد الانسحاب الجزئي الأول عام 1994 أفضل حالاً عشية انتفاضة الأقصى المسلحة، مع تتابع عمليات المقاومة وسقوط القتلى من الجيش والمستوطنين، وكان واضحاً حتى لأكثر نخب اليمين الديني والاستيطاني المتطرفة أن الهروب من قطاع غزة مسألة ملحة لا تحتمل التأجيل. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون، وهو العسكري المجرب، قد أيقن مبكراً استحالة بقاء أي شكل من أشكال الوجود الإسرائيلي في القطاع، وهو ما أفصح عنه بعد ذلك في خطاب لوسائل الإعلام الإسرائيلية عندما قال "لا يمكن السيطرة على غزة إلى الأبد، فهناك يقطن أكثر من مليون فلسطيني (أصبحوا اليوم 2 مليون) يضاعفون أنفسهم كل جيل، ويعيشون في مخيمات اللاجئين في فقر وضائقة واكتظاظ لا شبيه له، وفي دفيئات الكراهية المتزايدة دون أفق أو أمل"، وهو ما ترجمه عملياً ودون تردد في خطة ما يسمى بـ"فك الارتباط"، التي تتضمن الانسحاب الكامل من قطاع غزة من طرف واحد دون التفاوض مع السلطة الفلسطينية. وحتى لا يترك انطباعا بأن الخطة مجرد عملية هروب سريعة من جحيم القطاع، شملت الخطة إخلاء أربع مستوطنات صغيرة معزولة في شمال الضفة الغربية.
ولكن ما لم يقله شارون صراحةً وأضمره في نفسه هو أن الخطة تمثل استكمالاً لمسلسل الفصل بين الضفة وغزة، وما كان يعتقد به هو أن السلطة الفلسطينية ستفقد سيطرتها تدريجياً على القطاع بينما ستؤول الأمور إما إلى الفوضى والحرب الأهلية، أو إلى سيطرة فصائل المقاومة على غزة والتي ستسهل محاصرتها وإنهاكها وصولاً إلى استسلامها، أو استقدام قوات دولية تسيطر بطريقة غير مباشرة على غزة وتقوم بالدور نيابةً عن الاحتلال الإسرائيلي.
لم تتأخر نبوءة شارون كثيراً، فبعد الانسحاب الكلي من القطاع في آب/ أغسطس 2005 وإجراء الانتخابات التشريعية وفوز حماس فيها ورفض السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي الاعتراف بنتائجها، سيطرت حماس على غزة صيف 2007، وهو ما كان خليفة شارون إيهود أولمرت ينتظره على أحرّ من الجمر، فأسرع إلى تشديد الحصار وتقليص الخدمات والمعونات ومتطلبات الحياة الأساسية وتقليصها إلى الحد الأدنى بما يبقى السكان على قيد الحياة وليس أكثر من ذلك، على اعتبار أن قطاع غزة يمثل إقليماً متمرداً، بينما اعتمدت سياسة أخرى في الضفة الغربية مفادها تعزيز التنسيق الأمني على أرضية مشتركة بأن حركة حماس عدو للطرفين، والانفتاح الاقتصادي بما يضمن رفع مستوى الرفاهية، مع الحديث عن التسوية وفرص السلام واستئناف المفاوضات في وقت يستمر فيه الاستيطان ومصادرة الأراضي وتطبيق مخطط السيطرة على 60% من مساحة الضفة الغربية.
لم تغب إسرائيل عن أيٍ من محاولات إنهاء الانقسام وإعادة اللحمة بين جناحي الوطن، لأن الانقسام وإدامته من ناحية المبدأ هو ربح صاف للكيان، إلا إذا كان إنهاء الانقسام يعني تصفية المقاومة وبنيتها التحتية في غزة وقبول حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى بما قبلت به حركة فتح ومنظمة التحرير في اتفاق أوسلو، لذلك كانت الشروط الإسرائيلية وبالضرورة الأميركية بالمرصاد، تلميحاً أو تصريحاً، تصل إلى قادة السلطة الفلسطينية إما عبر وسائل الإعلام أو من خلال قنوات التنسيق الأمني الرسمية، برسالة ومضمون مفادهما أن المصالحة لن تتم إلا وفق الشروط الإسرائيلية أو لن تتم أبداً، وهذا لا يعني البتة منح بعض من هامش المناورة الضيق للسلطة الفلسطينية نفسها أو للطرف المصري الراعي الحصري للقاءات المصالحة.
وتجسدت الشروط الإسرائيلية وبشكلٍ واضح لا لبس فيه في بدايات جولة المصالحة الأخيرة برعاية مصرية (2017 - 2018)، عندما أعلن "المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية" شروطه الثمانية لمشاركة حماس في أي حكومة فلسطينية، أو بتعبير آخر المصالحة، وهي: "اعتراف حماس بـ(إسرائيل)"، وتخلي حماس عن سلاحها، ونبذ ما يسمى "الإرهاب"، وإعادة الجنود المفقودين في غزة، وبسط سيطرة السلطة الأمنية على القطاع كاملا بما في ذلك المعابر، ومنع تهريب السلاح، وتعهد السلطة بالعمل على "إحباط البنى التحتية للإرهاب" في الضفة، وقطع العلاقات القائمة بين حماس وإيران، ولا يتم تحويل الأموال والمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة إلا عن طريق السلطة الفلسطينية وعبر الآليات التي تم التوافق عيها مع الأمم المتحدة.
وهو ما ينسجم مع متطلبات صفقة القرن التي تتضمن تكريس واقع قطاع غزة ككيان مستقل وبسلطة شبيهة بسلطة رام الله من ناحية محاربة المقاومة والتنسيق الأمني، مع سيطرة الاحتلال على الضفة الغربية باستثناء بعض الجيوب المكتظة بالسكان الفلسطينيين التي تتمتع ببعض صلاحيات الإدارة الذاتية، التابعة لدولة غزة أو بعلاقة سياسية مع الأردن بصيغة الكونفدرالية.
وبالتالي ستبقى الشروط الإسرائيلية للمصالحة سيفاً مسلطاً على السلطة الفلسطينية التي يضيق هامش تحركها يوماً بعد يوم، إلا إذا انقلبت حماس على نفسها وتخلت عن ثوابتها، وحينها سيكون للكيان شأن آخر مع حركة حماس.