علاقة تاريخية: إلهام واستلهام

علاقة تاريخية: إلهام واستلهام

29 يوليو 2018
عرفات وكاسترو في كوبا عام 1974 (فرانس برس)
+ الخط -
يقول الثائرُ الأرجنتيني تشي غيفارا "أينما وُجِد الظلم فذلك هو موطني"، وطبّق غيفارا هذه المقولة حرفياً وعملياً، فجنسيته الأرجنتينية لم تمنعه من المشاركة في الثورة الكوبية، ثم التحريض على ثورة الكونغو "كينشاسا"، ثم اعتُقِل في بوليفيا وأُعدِم هُناك. وإعدامه لم يمنع تمدد فكرته ومقولته التي أصبحت منهجا عالميا في تعاطي اليسار العالمي مع الثورات أينما وجدت وفي المركز منها الثورة الفلسطينية.
تثير العلاقة ما بين الثورة الفلسطينية واليسار العالمي سؤالاً محورياً مفاده: هل كان سقوط الاتحاد السوفييتي أو المعسكر الاشتراكي وتحول النظام الدولي من القطبية الثنائية للأحادية أحد أسباب ذهاب منظمة التحرير الفلسطينية للتسوية السلمية وتوقيع اتفاق أوسلو؟
يفضي هذا التساؤل لمجموعة أسئلة فرعية تدفع إلى استدعاء العلاقة ما بين الثورة الفلسطينية واليسار العالمي، ومسارات هذه العلاقة وطبيعتها وكيفية انفتاح الثورة الفلسطينية على اليسار العالمي، وكيف استلهمت منه وتأثرت به. وما الذي وجدته الثورة الفلسطينية في منظومة الدول الاشتراكية التي كان من بين أهم مبادئها مناهضة الاستعمار. وكيف التقط الرئيس الراحل ياسر عرفات هذا القطب ليؤسس لواحد من أكبر التحالفات التي صنعتها الثورة الفلسطينية، ويعامل هذا القطب عرفات كزعيم وطني تحرري في العالم؟

من تل أبيب لسايغون
وجدت الثورة الفلسطينية في تجربة فيتنام إلهاما ودافعا مساندا لها، وقد اتضحت العلاقة بين ثورة فيتنام والثورة الفلسطينية في الكلمة التي ألقاها مندوب فيتنام وأوردها حنا ميخائيل أبو عمر في مجلة شؤون فلسطينية في عام 1973؛ إذ يصف مندوب فيتنام العلاقة قائلا: "إنه لشرف عظيم لنا أن نكون بينكم أيها الثوار الفلسطينيون الغالون علينا والذين نعتبركم أشقاء لنا ورفاق سلاح في خندق واحد في نضال مشترك. على الرغم من أن فيتنام وفلسطين تبعدان كثيراً عن بعضهما البعض من الناحية الجغرافية فتقع الواحدة في الشرق الأقصى والأخرى في الشرق الأوسط، إلا أن المسافة لا تهمنا مطلقاً ونشعر دائماً أننا قريبون من بعض إذ نناضل من أجل القضية نفسها ألا وهي الاستقلال والحرية وضد عدو واحد الذي هو الإمبرياليون الأميركيون المعتدون وخدمهم في تل أبيب كما في سايغون. إن دعمنا بدون تحفظ للنضال العادل الذي يخوضه الشعب العربي الفلسطيني ضد الإمبرياليين والصهاينة الإسرائيليين المعتدين هو بالنسبة لنا مسألة مبدأ ثوري".
كانت ثورة فيتنام ملهمة وأظهرت أن شعباً صغيراً، نسبياً، وفقيراً إلى حد كبير، قادر على كسر أكبر الهجمات من قبل أعتى القوى الإمبريالية في تاريخ البشرية، وصولاً إلى دحر هذه الهجمة وإرغام الـمعتدين على الانسحاب الكامل في ظروف مذلة، وهو ما تحقق في ربيع عام 1975. وإلى جانب انتصار ثورة فيتنام شهد العالم انتصارات أخرى كلها كانت ملهمة للثورة الفلسطينية، مثل المستعمرات البرتغالية في أفريقيا (أنغولا، موزامبيق، غينيا، بيساو) والتي انتزعت استقلالها بعد أن شهدت البرتغال نفسها في عام 1974 ثورة يسارية أطاحت النظام الفاشي الاستعماري السابق، ودعمت مطالب الشعوب الـمستعمرة في إنهاء الوجود الاستعماري.

من المنظمة إلى هافانا
وقبل ذلك كله كان هناك انتصار مهم لحركة ثورية متميزة في جزيرة كوبا، بقيادة فيديل كاسترو في عام 1959، والذي كان إشعاعا ومثالا للفدائيين الفلسطينيين على مدار عمر الثورة الفلسطينية وحتى اللحظة، والذي أعلن في مؤتمر القمة الرابع لدول عدم الانحياز بالجزائر في 9 /9 /1973 قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل فكانت كوبا أول دولة في القارة الأميركية تقطع علاقاتها بإسرائيل.
وفي 1974 زار وفد من منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات كوبا؛ وافتتح مكتبا دائما لمنظمة التحرير في هافانا. لقد عرف الفلسطينيون كاسترو في سجون الاحتلال وتعلموا أدبيات الثورة الكوبية وعرفوا معاني النضال العالمي وتشكلت لديهم فكرة البعد العالمي للثورة الفلسطينية. وإذا كنا جميعا نعرف كاسترو، فإن هناك قائمة طويلة جدا يوردها وديع حداد في مذكراته.

السوبر يسار
يستحضر وديع حداد أحد مؤسسي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والذي يصفه رفاقه برائد "العنف الثوري" في تاريخ المقاومة الفلسطينية في مذكراته قائمة بأسماء فدائيين قدموا من أميركا اللاتينية وضحوا بحياتهم من أجل الالتحاق والقتال في صفوف الثورة الفلسطينية، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر النيكاراغوي الأممي باتريك أرغويلو الذي استشهد في إحدى عمليات المجال الخارجيّ في بريطانيا، في أثناء عملية اختطاف طائرة "العال" الإسرائيلية المتجهة من لندن إلى تل أبيب، في أيلول/سبتمبر 1970. والمناضل الأممي الفنزويلي إيليتش سانشيز، المعروف بـ "كارلوس الثعلب"، وكان قد قاد عدداً من عمليات العنف الثوريّ في أوروبا في فترة السبعينيات، تحت قيادة وديع حداد، بدءاً من محاولة اغتيال جوزيف سييف، رئيس محلات "ماركس أند سبنسر"، لكونه صهيونياً داعماً إسرائيل، وصولاً إلى عملية اختطاف وزراء النفط في اجتماع "أوبك" لعام 1975. يضاف إليهما العديد من أسماء ممن تدربوا في معسكرات الفدائيين في الأردن ولبنان، وكانوا يعرفون بلغة "السوبر يسار".
مثل فرانكو فونتانا والمعروف باسم جوزيف إبراهيم، وهو مقاتل إيطالي ينحدر من بولونيا الإيطالية، انضم لصفوف المقاومة الفلسطينية في مخيمات لبنان في سبعينيات القرن الماضي، وانتمى إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وكان متخصصا في قصف الكاتيوشا. توفي عام 2015 في لبنان، وعند محاولة نقله إلى بلده الأصلي فوجئوا بوجود وصية له بدفنه في فلسطين، فإن تعذر ذلك، طلب دفنه في إحدى مخيمات الشتات، وهو ما حصل فعلا، حيث دفن في مقبرة شهداء مخيم شاتيلا.
وتسويوشي أوكودايرا و ياسويوكي ياسودا وكوزو أوكاموتو مقاتلون يابانيون من منظمة الجيش الأحمر، نفذوا عملية مطار اللد النوعية عام 1972 وقتلوا وجرحوا العشرات، وكانت العملية مشتركة مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان الناجي الوحيد من العملية هو "أوكاماتو" الذي أطلق سراحه في تبادل الأسرى عام 1985 وهو يعيش حاليا في مخيمات لبنان. وبادر ماينهوف وأولريكا ماينهوف وهي من أعضاء الجيش الأحمر الألماني الذين ساهموا مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بخطف عدد من الطائرات في أوروبا للمطالبة بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي. ثم أن رسام الكاريكاتير العالمي كارلوس لاتوف هو برازيلي من أصل لبناني، وقد اتخذ من القضية الفلسطينية تخصصاً في أعماله.

صعود اليسار
لا تختلف ولا تنعزل مبادرات الأفراد عن المزاج العام لدولهم ومجتمعاتهم، وإن كنا استحضرنا مواقف فردية يسارية فيما سبق فإن مواقف الدول ذات المرجعية اليسارية لا تختلف، ويمكننا رصد التحول في السياسات الرسمية لدول أميركا اللاتينية تجاه فلسطين عقب صعود حكومات أكثر يسارية في منتصف العقد الماضي، وأظهرت الإدارات الأميركية اللاتينية بعد عام 2008 تضامناً مشهوداً مع الشعب الفلسطيني. وبلغ هذا التحول أوجه في موجة الاعتراف بدولة فلسطين في الفترة 2008-2013. فاعترفت معظم دول أميركا اللاتينية رسمياً بفلسطين كدولة.
لم يقتصر التضامن على الاعتراف بدولة فلسطين، بل علّقت فنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا علاقاتهما الدبلوماسية بإسرائيل احتجاجاً على عدوان الرصاص المصبوب، ورداً على الهجوم على أسطول الحرية المحمَّل بالمساعدات والمتجه إلى قطاع غزة. وفي أعقاب العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة في 2014، أطلق الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حملة أغيثوا فلسطين، وأوقفت بوليفيا اتفاقاً مع إسرائيل للإعفاء من تأشيرة الدخول ووصفتها بـ "دولة إرهابية".
لم تنحصر هذه الموجة في تقديم الدعم والتأييد فقط، لكنها تطورت عمليا وقام الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، ورئيس جمهورية الدومينيكان ليونيل فرنانديز، بزيارة تاريخية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في عامي 2010 و2011، وفتحت الأرجنتين وأوروغواي سفارات جديدة في رام الله. وفي عام 2015، رفضت حكومة، ديلما روسيف، في البرازيل لوقت طويل تعيين، داني دايان، القيادي السابق في مجلس "ييشع" الذي يمثل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، سفيراً لإسرائيل في برازيليا ما تسبب بفراغ وأزمة دبلوماسية بين الطرفين.
ومن يسار أميركا اللاتينية إلى يسار أوروبا نرصد في الوقت الذي ينحاز فيه العالم لإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية مواقف أحزاب اليسار الأوروبي التي أكدت بحضور أحزاب يسارية من عدة دول عربية وغربية مواقفها الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، في الوقت الذي دانت هذه القوى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، والخطوات المكملة التي اتخذتها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل بما في ذلك قرار ضم المستوطنات، وقانون تمكين القدس، وسائر الإجراءات والمواقف العنصرية الرامية لتكريس الاحتلال.
(كاتب فلسطيني/غزة)