مسيرات العودة

مسيرات العودة

29 ديسمبر 2018
مسيرات العودة هددت الردع الإسرائيلي (عبد الحكيم أبورياش)
+ الخط -
لم تكن الحالة الفلسطينية قبل انطلاق مسيرات العودة وفعالياتها في 30 آذار/ مارس 2018 في أحسن أحوالها، فقد أُعدم مشروع التسوية السلمية تاركاً خلفه سلطة شكلية هزيلة في رام الله، مكبلة بالتزامات أمنية واقتصادية لا تخدم إلا دولة الاحتلال الإسرائيلي، وحُشرت القيادة الفلسطينية المفلسة سياسياً في زاوية الابتزاز والإملاءات الخارجية المحكومة لمصالح أصحابها وأجندتهم الخاصة، ولم يكن مشروع المقاومة الفلسطينية أيضاً في وضع يحسد عليه، فقد لُوحق وكبلت يده وحُرم من إمكانية استخدام قوته العسكرية وفُرضت عليه معادلات توازن القوى وتعقيدات الأمر الواقع، ذلك في ظل استمرار الحصار على قطاع غزة، وازدياد معاناة سكانه بسبب عقوبات السلطة المفروضة عليه والإجراءات المتخذة من أطراف عربية ودولية من أجل إخضاعه واستدراجه إلى متاهات الحلول السلمية، وتضييق دولة الاحتلال الخناق على الضفة المحتلة وتقطيع أوصالها ومصادرة الأراضي لمصلحة الاستيطان، وانحياز الإدارة الأميركية للمصالح الإسرائيلية وإعلانها القدس عاصمة لدولة إسرائيل.
بمبادرة شبابية بدأت فكرة جعل فعاليات مسيرة العودة السلمية مستمرة ولا تقتصر على يوم الأرض فقط، وإن لم تكن الفكرة بحد ذاتها جديدة فهي امتداد طبيعي لفعاليات المقاومة الشعبية الفلسطينية الممتدة على طول خط الثورة الفلسطينية، وخصوصاً في مناطق الضفة الغربية وأراضي الـ48، وقد التقطت الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة الفكرة وتبنت المسيرات وتمسكت بها وسارعت إلى تشكيل الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار والمكونة من 27 عضوًا، وتتضمن 13 لجنة مختصة، وقد تم تكوين لجان الهيئة من كل التنظيمات ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية والطلاب والشباب والمرأة واللاجئين والإعلاميين والحقوقيين، والفنانين، والوجهاء ومخاتير العشائر، وتعقد اجتماعاتها بشكل دوري وفيه تحدد الفعاليات المراد تنفيذها في المسيرات، وهي التي اختارت أماكن اعتصام المشاركين في مسيرة العودة في ستة تجمعات مركزية موزعة حسب المحافظات، حيث تتوجه مسيرات محافظة رفح إلى حي النهضة "بوابة المطبق"، وخانيونس إلى بلدة خزاعة "بوابة النجار"، والوسطى إلى مخيم البريج "بوابة المدرسة"، وشرق مدينة غزة إلى حي الزيتون "بوابة ملكة"، والشمال إلى "بوابة أبو صفية"، إضافة إلى موقع زيكيم البحري على بحر شمال غزة والذي تتوجه له المسيرات من كافة مناطق قطاع غزة في أيام الاثنين من كل أسبوع، وعملت الهيئة على زيادة زخم المسيرات وتعزيزها بما يضمن استمراريتها بعد أن وجدت فيها ضالتها كوسيلة لتحريك الوضع السياسي الراكد، وطورت فكرتها من خلال توسيع الامتداد الزماني لها لتمتد لأيام أُخرى غير الجمعة، وتوسيع الامتداد المكاني لتنفذ الفعاليات على غالبية مناطق التماس مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث يتراوح متوسط المشاركين في المسيرات على حدود قطاع غزة ما بين 20 -30 ألف مشارك، وقد كانت فكرة المسيرات الأولى تتركز في تكرراها بشكل تصاعدي في أيام الجمعة ابتداء من ذكرى يوم الأرض في وصولاً إلى ذكرى النكبة في 15 أيار/مايو 2018 مع تعميمها في الداخل المحتل ودول الطوق في المناطق الحدودية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
عززت مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار من التوافق والإجماع الوطني والتنسيق الفصائلي فلم ترفع فيها إلا أعلام فلسطين ولم تردد إلا الشعارات والهتافات الوطنية، واختيرت أسماء الفعاليات بما يتوافق مع مجريات الأحداث والثورة الفلسطينية، وجمعت ساحاتها كل مكونات المجتمع الفلسطيني بمختلف أعمارهم ومرجعياتهم السياسية والاجتماعية بعيداً عن الاختلافات الحزبية والحسابات الفئوية، وبات من الملاحظ مشاركة قيادات الفصائل وشخصيات وطنية وأكاديمية ودينية ووجهاء ومخاتير وتجار، وانخراطهم مع الشباب الثائر ومشاركتهم إياهم في الفعاليات والأنشطة الثورية المصاحبة للمسيرات في مشهد بانورامي يجسد الانسجام والوحدة الوطنية في أجمل صورها، وبرهن الشارع الغزي بالتفافه حول المسيرات وفعالياتها على مدى تمسكه بمطالبه وإصراره عليها وأفشل محاولات بعض الأنظمة العربية على احتوائها ووقف أنشطتها وإنهائها وقد استطاعت المسيرات تجاوز التحديات والمخاطر التي واجهتها خصوصا ما يتعلق بالجانب المادي وتوفير احتياجات التظاهر، أو محاولات تشويهها والتشكيك في جدواها ونجاعتها.
فتحت المسيرات الباب أمام الإبداع الثوري وتجاوب ميدانها مع أفكار الشباب الثائر السلمية فإشعال الإطارات المطاطية، ورمي الحجارة وقص الأسلاك الشائكة، وتطيير الطائرات الورقية، والبالونات الحارقة، وتوثيق يوميات التظاهر عبر الهواتف المحمولة ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وتسيير الرحلات الطلابية وعقد عدد من اللقاءات والورش التدريبية والتثقيفية في مخيمات العودة المقامة على الحدود وإقامة الحفلات والفنية والفلكلور الشعبي فيها جاءت بفعل تراكمي وتطورت ميدانياً، وصبغت الفعاليات بصبغة مدنية وحضارية منحتها قبول المجتمعات الغربية ودفعتهم للتضامن معها ومناصرتها، واستقطبت إليها وسائل الإعلام العالمية والمؤسسات الحقوقية والقانونية، إلى جانب أنها أحيت الحس الوطني والتراثي لدي الفلسطينيين وخصوصاً صغار السن منهم.
رسخت المسيرات نفسها كاستراتيجية ناجعة وفعالة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، واستطاعت أن تشكل حالة استنزاف واستنفار لكل الدوائر الأمنية والعسكرية لدى دولة الاحتلال ولجمتها عن استخدام ترسانته الحربية، المتحدث العسكري أفيخاي أدرعي وصف في مقطع فيديو قصير نشره في صفحته على موقع "تويتر"، أن المسيرات "مش عودة.. فوضى، مش شعبية.. استفزازية"، ونقلت صحيفة "معاريف" عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قوله في حديث لصحافيين إسرائيليين في نيويورك: "من الواضح أن حماس خلقت الأزمة الأولى في القطاع"، فقد استطاعت المسيرات حشد أعداد بشرية هائلة على الحدود وتحريضها على الوجود بشكل دوري في مخيمات العودة مما يرهق جيش الاحتلال ويجعله في حالة استنفار دائم، ويحرفه عن متابعة العمل في مهمات أكثر ضرورة وخطورة، وكان الصحافي الإسرائيلي المختص بالشؤون العربية يوني بن مناحيم قد علق على مسيرات العودة بقوله "إنها استطاعت أن تُربك حسابات إسرائيل في ما يتعلق بقضية اللاجئين التي كادت تختفي، وأن المسيرات أعادت القضية الفلسطينية وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم إلى الأجندة السياسية على المستوى الإقليمي والدولي، ويرى بن مناحيم أن أخطر ما نجحت فيه مسيرات العودة أنها أعادت طرح الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون مع الاحتلال على أنه صراع شعبي وهو ما كانت إسرائيل قد تجاوزته منذ مدة، كما أنها أعادت طرح حصار غزة والأزمة الإنسانية فيه من جديد على صدارة الاهتمام العالمي، وتمكنت المسيرات من إيلام المجتمع الإسرائيلي وإبقائه في حالة من التوجس والخوف والترقب، وبالطبع هشمت من صورة إسرائيل الأخلاقية في العالم أجمع وأظهرت الوجه الحقيقي لجيش الاحتلال الذي يستهدف المتظاهرين من الأطفال والنساء والشيوخ والطواقم الطبية والإعلاميين بالرصاص الحي القاتل ويتعمد التسبب في إحداث إعاقات دائمة لدى المصابين المدنيين العزل.
يُحسب لمسيرات العودة وكسر الحصار أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام في المجتمع الدولي وعززت حضورها السياسي وأعاقت وصعبت المشاريع الرامية إلى تصفيتها، وأبرزت استناداً على الحق الشرعي والإنساني وقرارات الأمم المتحدة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، وأعاقت عمليات التطبيع المباشر بين دول عربية والاحتلال الإسرائيلي, وأدت إلى تراجع حكومات عربية عن الإعلان عن إقامتها علاقات مباشرة مع الاحتلال، ومنعت إسرائيل من التغلغل في المجتمعات العربية والترويج لما يسمى بالتعايش المشترك، وسلطت الأضواء على حصار قطاع غزة والأزمة الإنسانية فيه من جديد بعد أن كاد أن ينسى ويضيع في تزاحم الأحداث العالمية، وأبرزت غزة كمحرك فعال ورئيسي في المنطقة وقللت من الضغط الممارس على حركة حماس وأفشلت مخطط تفجير القطاع في وجهها ومنحها عناصر القوة والمناورة، ودفعت السلطة في رام الله إلى التراجع عن فرض مزيد من العقوبات التي كانت تلوح بها ضد غزة، لم تخل فعالية واحدة من رسائل واضحة موجهة لدولة الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية والمجتمع الدولي والعربي.
نجحت مسيرات العودة وكسر الحصار في تحقيق حدٍ لا بأس به من الإنجازات لمصلحة مشروع التحرر الوطني الفلسطيني ومن منطلق هذه النجاحات يجب أن يتم تطور أدائها وفعالياتها ووسائلها الشعبية والسلمية وأن تتم من وقت لأخر عملية تقييم ومراجعة لها، وذلك لضمان استمرار المسيرات وفعالياتها المصاحبة أطول فترة ممكنة وتحقيق النتائج المرجوة منها، وتبرز هنا ضرورة انتقال العمل إلى الضفة الغربية المحتلة وإلى باقي أماكن تجمع الفلسطينيين في الشتات، لما يشكله ذلك من ضغط وإرهاق للاحتلال الإسرائيلي وكشف حقيقة إجرامه للعالم وإفشال مخططاته العنصرية ضد الشعب الفلسطيني، ومساهمته في خلق مشكلة حقيقية للمجتمع الدولي تدفعه إلى إنصاف الشعب الفلسطيني ومنحه حقوقه وحريته.

المساهمون