من دولة فلسطينية مستقلة لدولتين

من دولة فلسطينية مستقلة لدولتين

24 نوفمبر 2018
مخاوف من تحول غزة لدولة أمر واقع (مجدي فتحي/Gitty)
+ الخط -
في 15 آب/ أغسطس 2007، حذر رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق رومانو بروديفي في رسالة نشرتها صحيفة "كورييري ديلا سيرا" بأن الشعب الفلسطيني يمكن أن يواجه انقساماً لا يمكن إصلاحه، يمكن أن يقود إلى قيام دولتين فلسطينيتين. لم يستطرد الرجل في شرح ما يقصد ولم يلتقط صناع القرار المنقسمون بين قطاع غزة والضفة الغربية حديث الرجل، ربما لأن مصطلح الدولتين الفلسطينيتين لم يكن جديداً على مسامعهم، لكن الانقسام وفق رؤية بروديفي كان الخطوة العملية في الذهاب صوب تنفيذ المصطلح وتشكيله على أرض الواقع، وإقامة دولتين، الأولى في الضفة والثانية في غزة.

أفضى استمرار الانقسام السياسي والجغرافي منذ العام 2007، وفشل كل الجهود والمبادرات الساعية لإنهائه، لدرجة تعمّقه وسيره الحثيث نحو التحوّل إلى انفصال دائم حتى إشعار آخر، وعليه انتعشت الخطط الرامية للحل في غزة دون الضفة، بالرغم من أن اتفاق أوسلو ينص على الوحدة الإقليمية بين الضفة والقطاع.

تجلت الخطط لدولة غزة ودولة الضفة في جولات مبعوث الرباعية الدولية حينها توني بلير من أجل إقامة هدنة طويلة الأمد مقابل ميناء ومطار وتخفيف الحصار في غزة، واستمعنا كذلك لتصريح زعيم البيت اليهودي نفتالي بينت الذي قال إن هناك دولتين للفلسطينيين: واحدة في الأردن، والثانية في غزة، ولا حاجة بهم لدولة ثالثة في الضفة.

دولة غزة
دولة غزة أو دولة فلسطينية في غزة، لم يتبلور حضور المصطلح كنتيجة للانقسام فقط، وإن كان الانقسام قد وفر له الحاضنة، لكنه موغل في القدم تم الذهاب أول مرة إليه كبالون اختبار عربي في 23 / سبتمبر 1948 عندما أعلنت الهيئة العربية العليا إنشاء "حكومة عموم فلسطين"، وكان مركزها في مدينة غزة مؤقتاً. وتألف مجلس وطني (برلمان)، وعقد أول اجتماعاته في غزة في الأول من أكتوبر 1948، حيث أعلن استقلال فلسطين بحدودها الدولية كدولة ديمقراطية ذات سيادة، وأقر دستوراً من 18 مادة، ومنح للحكومة الفلسطينية ثقته. كانت الضفة تحت الإدارة الأردنية ولم يقبل الأردن بوجود فلسطيني ينتزع منه حضوره، لذلك لم يكن بدٌّ من غزة.

وعندما تحقّقت الوحدةُ بين مصر وسورية في فبراير/ شباط 1958 رَفعتْ دولةُ الوحدة شعارَ "الوحدة طريق تحرير فلسطين" وقد وجّه المؤرِّخ الفلسطينيّ محمد عزّة دروزة في 9/ 3 /1958 مذكّرةً إلى الرئيس جمال عبد الناصر يطلب فيها إعلانَ قيام جمهوريّة فلسطينيّة في قطاع غزّة تنضمّ إلى الجمهوريّة المتّحدة، لكنّ الدعوة لم تجد أيَّ صدى.

اليوم بعد ثلاثة عقود على إعلان استقلال الدولة الفلسطينية يُصرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس ويحذر بأنه لا دولة بدون غزة ولا دولة في غزة، وما كان الرجل ليقول ما قاله إلا لأنه يلمح ملامح تبلور مشروع دولة فلسطينية قيد التشكل في غزة كأحد مقومات ما بات يُعرف بصفقة القرن، ويبدو أن تصريحات أبو مازن جاءت في سياق الرد على المحاولات العربية لإقناعه بقبولها، أو ربما لإعادة إحياء مشروع غزة الكبرى، والذي كان قد طُرح عام 1953 بين الحكومة المصرية والحكومة الأميركية ووكالة الأمم المتحدة بعد سلسلة من المجازر التي اقترفتها القوات الإسرائيلية في البريج وغزة وخان يونس، ولكن مظاهرات الشعب الفلسطيني في غزة في الأول من آذار 1955 أدت إلى إسقاط هذا المشروع.

ثم طُرح المشروع على أنور السادات في مفاوضات كامب ديفيد في عام 1979 ولكن السادات رفض، كما طرح أيضاً من طرف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني ومبعوث الرباعية الدولية، وقد كانت ملامح مشروع بلير تقوم على إقامة دولة فلسطينية لها إدارتان، إدارة في الضفة الغربية رأسُها فلسطيني وقرارُها أردني تسيطر على 45 % من مساحة الضفة الغربية، وعلى أن تضم المستوطنات والمنطقة ج إلى إسرائيل، وإدارة في غزة رأسُها فلسطيني وقرارُها مصري تتوسع مساحتها في سيناء بما يساوي مساحة المستوطنات والمنطقة ج التي سوف تضم لإسرائيل في الضفة الغربية.

الانقسام والدولتان
التقطت إسرائيل حدوث الانقسام السياسي بين فتح وحماس، والجغرافي بين الضفة وغزة، وسيَّرت برامجها المستقبلية وفق هذا الواقع وتبعاته وعبرت آراء إسرائيلية كثيرة عما يمكن إنجازه في ظل استمرار الانقسام. واحدٌ من هذه الآراء عبر عنها الجنرال غرشون هاكوهين حين قال إنه "في ظل التدهور الذي يشهده القطاع في السنوات الأخيرة، وعدم وجود أفق لوضع حد لهذا التدهور، فإن حل الدول الثلاث قابل للتطبيق لإيجاد مخرج لضائقة غزة الإنسانية، ويشمل إقامة دولة فلسطينية في غزة وشمال سيناء وصولاً إلى العريش". وأشار هاكوهين، إلى أنه "بعد أن نشأ انقسام سياسي وجغرافي بين قطاع غزة حيث تسيطر حماس، والضفة الغربية حيث تحكم السلطة الفلسطينية، حصل تصدع كبير في فرضية حل الدولتين". وعلل ذلك قائلاً: "لأن الفلسطينيين أنفسهم أصبح لديهم كيانان منفصلان".

خطة "غزة الكبرى"
سوف تصبح هذه الأرض في سيناء دولة فلسطينية منزوعة السلاح - يُطلق عليها اسم "غزة الكبرى"- والتي سيُسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إليها، وسوف تُمنح سلطة محمود عباس الفلسطينية حكماً ذاتياً في مدن الضفة الغربية على مساحة تشكل نحو خُمس المناطق. وفي المقابل، سيكون على عباس أن يتخلى عن الحق في إقامة دولة في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

يوجد لفكرة إقامة دولة فلسطينية خارج فلسطين التاريخية -سواء في الأردن أو سيناء- تاريخ طويل في الفكر الصهيوني. كانت عبارة "الأردن هو فلسطين" صرخة تحشيد متكررة في اليمين الإسرائيلي منذ عقود. وكانت هناك اقتراحات موازية تتعلق بسيناء. وفي الأوقات الأخيرة، وجد خيار سيناء استحساناً لدى اليمين الإسرائيلي، خصوصاً بعد اندلاع الانتفاضة الثانية قبل 14 عاماً. ويبدو أن دعم هذه الفكرة قد تصاعد بعد فك الارتباط (الانسحاب) في العام 2005، ثم فوز حماس في الانتخابات الوطنية الفلسطينية في العام التالي.

بعد ذلك، نفض اليمين الإسرائيلي الغبار عن نسخة من فكرة "سيناء هي فلسطين" مجدداً خلال عملية الجرف الصامد، الهجوم الذي شنته إسرائيل واستمر 50 يوماً على غزة في صيف العام 2014. ودعا موشيه فيجلين، رئيس الكنيست الإسرائيلي وعضو حزب نتنياهو "الليكود" إلى طرد سكان غزة من ديارهم تحت غطاء العملية العسكرية، ونقلهم إلى سيناء، في إطار ما أسماه "حلٌّ لغزة".

دولتان فلسطينيتان. بدا هذا المصطلح أكثر وضوحاً وبشكل مباشر في مقال كتبه البروفسور جدعون بيغر في مايو/أيار 2011 وكان عنوانه "دولتان فلسطينيتان" يقول فيه حان الوقت، يحث فيه العالم على الاعتراف بالاستقلال الفلسطيني، وبموازاة ذلك توقع السلطة الفلسطينية على اتفاق مع حماس في غزة، للتوحد والعمل السياسي المشترك. لكن يُطرح هذا النقاش السياسي السؤال الجغرافي، وهو: هل تستطيع دولة منقسمة لاثنتين بينهما دولة أخرى البقاء زمناً طويلاً؟

ثلاثة عقود مرت كان الشعب الفلسطيني يتوق فيها لانتزاع دولته المستقلة حتى وإن كانت منقوصة وعلى حدود العام 1967 ثم تراجعت فاختصرت في غزة وأريحا أولاً ثم قسمت وانقسمت إلى غزة والضفة كيانين لا يمكن القول إنهما مستقلان بالمعنى السياسي، لكنهما كيانان منفصلان في دولة واحدة وشعب واحد. حتى بدا أن كلاهما يصور أنه أصبح دولة، هكذا يمر إعلان استقلال دولة فلسطين بعد ثلاثين عاماً وقد أصبحت فلسطين دولتين أو ربما ثلاث دول. وسيبقى الحال ما بقي الانقسام ويبدو أنه باق وتنجز الصفقة على ضفافه، لنصحو بعد عقد أو أقل على تلاشي الدولة الفلسطينية كرمز وتبديل الأرض الفلسطينية كحق يقال إنه حل.

المساهمون